«البيكاديللي» أضخم مسرح في بيروت هل يخرج من دائرة الإهمال؟
أصدرت وزارة الثقافة اللبنانية قراراً بضمّ مسرح قصر البيكاديللي إلى لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، نظراً إلى أهميته التاريخية والثقافية ووجوب الحفاظ عليه. وقد أبدى وزير الثقافة الدكتور غطاس الخوري نيته تقديم مشروع استملاك مسرح قصر البيكاديللي إلى مجلس الوزراء.
ليس عجباً أن تلتفت وزارة الثقافة إلى هذا المسرح الذي ارتبط بالحياة الثقافية في لبنان في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وخلال سنوات الحرب بشكل متقطع، ووقف على خشبته كبار الفنانين في لبنان والعالم العربي، من بينهم فيروز في مسرحيات الأخوين رحباني، فضلاً عن صباح وشارل أزنافور وداليدا وغيرهم... كان مسرح البيكاديللي قبلة كل من يود تنظيم حدث ثقافي في بيروت، فقد غلب عليه طابع الفخامة والعصرنة في آن، واستوعب الأعمال الكلاسيكية كما الأعمال الحديثة، فأضحى نقطة محورية تستقطب أهل الثقافة والفن ومتذوقيهما من أنحاء لبنان والخارج، وتوهّجت أنواره ليس على منطقة الحمرا فحسب حيث بني بل في أنحاء العاصمة وفي القلوب، لذا كان أي عمل يُقدَّم على خشبته يُحقق نجاحاً باهراً. واستمر في تألّقه إلى حين نشوب الحرب في لبنان، فتركت آثارها عليه كما على الوطن، ورغم ذلك استمرت أبوابه مفتوحة إلى أن قضى حريق على ما تبقى منه في أوائل الألفية الثالثة.
معلم حضاري
مسرح البيكاديللي في الأساس هو ملك الأخوين هاشم وخالد العيتاني، ثم ما لبث أن تحوّل إلى مؤسسة يموّلها أحد المصارف اللبنانية، يقع على أرض تبلغ مساحتها ألفي متر مربع. شيده المهندس اللبناني وليم صيدناوي عام 1965، مقتبساً هندسته من قصر في البرتغال، وهو يتسع لحوالى 800 شخص، أما الاسم فاقتبسه الشقيقان عيتاني من أحد المسارح الشهيرة في لندن. تميَّز بمقاعد مخملية حمراء وستائر فخمة وثريات بلورية ضخمة بلغ سعر الواحدة منها 140 ألف ليرة لبنانية آنذاك، أي ما يوازي 100 ألف دولار اليوم، فضلاً عن 10 غرف واسعة في كواليسه لتبديل الملابس. ومنذ إنشائه تحوّل إلى أحد أهم معالم بيروت الحضارية، ونافس مسارحها العريقة من بينها التياترو الكبير والأوبرا في منطقة البرج في وسط العاصمة، وقد افتتح عام 1967 بأوبرا نمساوية.فيروز وصباح وداليدا وعادل إمام
لا تزال أروقة هذا المسرح وجدرانه تردد صدى مسرحيات فيروز والرحابنة بدءاً من «هالة والملك» (1967)، من ثم كرّت سبحة المسرحيات من بينها: «الشخص»، «صح النوم»، «المحطة»، «ميس الريم»... كذلك تردّد صدى مسرحيات صباح، وملحم بركات (مسرحية «ومشيت بطريقي» في التسعينيات من القرن الماضي)، وماجدة الرومي التي قدّمت حفلة على خشبته عام 1998. عام 1978، قرّر الأخوان رحباني عرض مسرحية «بترا» على خشبته رغم الحالة الأمنية المضطربة في البلاد في تلك الفترة، وفي إحدى ليالي العرض اشتد القصف بشكل جنوني ما اضطرهما إلى نقل المسرحية إلى مسرح كازينو لبنان كونه يقع في منطقة كانت آمنة نوعاً ما. أيضاً استقطب قصر البيكاديللي الفنانين العرب والأجانب، من بينهم عادل إمام الذي وقف على حشبته في مسرحيتين «مدرسة المشاغبين» و«الواد سيّد الشغال»، دليدا التي قدّمت أربع حفلات عام 1970، شارل أزنافور الذي قدّم حفلات على خشبته بين 1970 و1975، والفنان اليوناني تيودوراكس الذي قدّم حفلات أثناء الحرب غير مكترث بانقطاع التيار الكهربائي. وكان من المقرر أن يعرض الكاتب مروان نجار مسرحيته «عريسين مدري من وين» على خشبته عام 2000، إلا أن حريقاً هائلاً التهم المسرح ومحتوياته وحال دون تقديمها، بلغت خسائره نصف مليون دولار. زياد الرحباني الذي كان يرافق الأخوين رحباني وفيروز في كواليس مسرحياتهم، أبى إلا أن يقدِّم مسرحياته على خشبته خلال الحرب، رغم الضرر الذي يلحق به مع كل جولة عنف تطاول بيروت.إعادة الحياة
حاول قصر البيكاديللي، بعد انتهاء الأحداث في لبنان، استعادة دوره الثقافي، فقدّم مسرحيات لزياد الرحباني وحفلات لمارسيل خليفة، إلا أن الظروف الاقتصادية الضاغطة حالت دون ذلك. كان وزير الثقافة غطاس خوري زار المسرح منذ فترة وأكّد ضرورة إعادة الحياة إلى أرجائه بالتعاون مع هيئة ضمان الودائع وتجديده وافتتاحه. لكن عملية التجديد قد تتطلّب موازنة باهظة لإعادة المسرح إلى ما كان عليه من فخامة، قد تتعدّى مليوني دولار. ذلك أن كل ما في داخله من ستائر ومقاعد وأدراج وجدران سطرت عليها الأحداث أبشع علامات الإهمال من خراب وهدم وتمزيق، وأضحى المسرح الأكثر فخامة في بيروت كومة ردم تنتظر مبادرة لتخرج من تحت الأنقاض.