«الاقتراض الحكومي» و«التقاعد المبكر»... الكويت بحاجة إلى «نفضة»
• كلاهما يحتوي على مخاطر عالية بلا نظرة مستقبلية والمبررات محدودة المهنية
• الإدارة غير الحصيفة تستخدم عوائد الاستدانة لسداد الالتزامات في الميزانية
قانونا التقاعد المبكر للموظفين، ورفع سقف الاقتراض الحكومي المعروضان على جدول أعمال مجلس الأمة يدللان على وجود انحراف قوي في الإدارة، وسطحية في المعالجة لأهم الملفات الاقتصادية في البلاد.
فرضت قضيتا التقاعد المبكر للموظفين، ورفع سقف الاقتراض الحكومي نفسيهما على مجريات الاحداث هذا الأسبوع، ليس فقط لتفاعلاتهما السياسية والاقتصادية، بل لأنهما قدما نموذجا واضحا لاختلالات المهنية والحصافة والنظرة المستقبلية لدى سلطتي التشريع والتنفيذ في الكويت؛ مما يؤكد الحاجة الماسة إلى «نفضة» على مستوى السلطتين، لتدارك مخاطر التعامل مع الاقتصاد والمالية العامة، على المديين المتوسط والطويل.فالحاجة الى «النفضة» تظهر جلية في ملف التقاعد المبكر، إذ جاءت الاقتراحات النيابية التي تضمنها تقرير اللجنة المالية البرلمانية منغمسة في اهداف شعبوية, ضعيفة المهنية, عظيمة الضرر، بلا أرقام ولا بيانات، ولا حتى توقعات مستقبلية للآثار على سوق العمل او الميزانية او الكلفة التصاعدية او احتياطات الدولة، والآثار الاجتماعية المرتبطة بخفض سن التقاعد، فضلا عن عدم تقديم داعمي المشروع أي إيضاحات لما يعتقدونه من أن مشروعهم سيدعم توفير فرص عمل أو تنمية المشاريع الصغيرة، مما يجعلها على الأرجح عناوين شعبوية محصورة بأهداف انتخابية، وهنا يكون الواجب التصدي لها مثلما يكون التصدي للقرارات الحكومية غير الشعبية؛ كرفع أسعار البنزين والكهرباء والضريبة المضافة مستحقاً؛ لعدم شمولها الأبعاد الاقتصادية الاخرى كالتضخم أو الاثر على الاقتصاد الكلي أو الابعاد الاجتماعية كالحفاظ على الطبقة المتوسطة.
انحراف الملف
وكان الأولى بالنواب -او لنقل أغلبهم- تولي ملف ادارة التأمينات لاستثماراتها وصناديقها، ومقارنتها مع أداء مثيلاتها الاقليمية والدولية، وفقا لتقارير ديوان المحاسبة؛ لحماية مستقبل المتقاعدين وأسرهم بشكل حقيقي، بدلا من تبني ملفات ومقترحات مجهولة المصير. غير أن الاختلال في الاداء البرلماني الذي تنامى بشكل غير مسبوق في السنوات الاخيرة، بعد ان بات النواب خاضعين لضغوط الناخبين، مع تكرار الانتخابات وغياب العمل المؤسسي والحزبي المنظم، جعل الجانب الشخصي والهم الانتخابي هو المشروع الأول للنائب، وباتت اقتراحات اللجان مليئة باقترحات غير منطقية تكلف مئات الملايين سنويا، ومن دون حتى بيان الكلفة المالية.أموال الاقتراض
دليل آخر على الحاجة الى «النفضة»، وهذه المرة من الحكومة، وعبر موافقة اللجنة المالية البرلمانية على رفع سقف اقتراض الحكومة (الديون السيادية) إلى 25 مليار دينار، ومد فترة الاقتراض إلى 30 عاما, فالعلة هنا ليست في الاقتراض بحد ذاته، ولا حتى الفوائد المترتبة على تسعير أي إصدار، ولكن في تنامي الاقتراض لسد احتياجات الإنفاق العام، في ظل عجز الميزانية، أي استخدام مبالغ التمويل لتغطية نفقات جارية، لا لمشاريع من شأنها ان تعدل اختلالات الاقتصاد، لاسيما سوق العمل او الايرادات غير النفطية، فمعظم الدول ذات الادارة الحصيفة تتعامل مع ملفات العجز والاستدانة باستخدام اموال الاقتراض في مشاريع تنموية على المدى الطويل، لا لتغطية النفقات التي لا تعطي عوائد اقتصادية او مالية.نماذج سيئة
أما الدول ذات الادارة غير الحصيفة فتستخدم عوائد الاستدانة لسداد الالتزامات في الميزانية، ولقد قدم لنا العالم خلال السنوات الاخيرة نماذج سئية جدا في هذا الاطار كاليونان وفنزويلا والبرتغال وايطاليا وغيرها، والاخطر من سوء الصرف هو تغطية التزامات «الدين السيادي» من الاحتياطي العام، خصوصا في ظل عدم وجود خطة اقتصادية واضحة لمشكلات الاقتصاد المتعددة، فرغم التحفظ عن خطة الإصلاح الاقتصادي والمالي لما فيها من اختلالات وانحراف عن المعالجات الصحيحة، فقد جري التراجع عنها قبل نحو عام تحت شعار «التحديث»، ولم تطرح اي خطة بديلة او محدثة منذ ذلك الوقت، مما يفتح المجال للكثير من الأسئلة حول جودة وجدية ومهنية الخطط الاستراتيجية في البلاد.مصروفات أكبر
وإذا علمنا ان مصروفات ميزانية الكويت، خلال السنوات الأخيرة، أكبر من حجمها المعلن بمتوسط يصل الى 30 في المئة، لأن بعض اوجه الانفاق يستقطع من الاحتياطي العام، لا من الميزانية؛ فإن العجز الحقيقي سنويا سيتصاعد تباعا مع النسبة السابقة، خصوصا ان معظم بنود الصرف خارج الميزانية ليست قصيرة الامد أو تدفع لمرة واحدة، بل ان بعضها مستمر ومتزايد كالمصروفات العسكرية وصفقات السلاح والتأمينات الاجتماعية وبنك الائتمان، وهذا الاقتطاع مصدره «اللحم الحي»، ويقلل من حجم المصدات المالية التي يجب المحافظة عليها وتنميتها لمواجهة حالات مالية طارئة، كما انه يقلل من أهمية الميزانية الرسمية للدولة، لأنها ليست السقف الاعلى للمصروفات، مما ينعكس سلبا على اهمية ترشيدها ما دامت هناك مصروفات أخرى خارجية، والأهم انها تجعل اقتطاع نسبة الـ10 في المئة من الايرادات النفطية الى صندوق الأجيال القادمة محدود الأثر، مادام سيقابله سحب او اقتراض من الاحتياطي العام!علة الإدارة
الادارة في الكويت ليست فردية صرفة لتنجح -بشكل استثنائي- كما نجحت سنغافورة في زمن «لي كوان يو»، ولا ديمقراطية كاملة كالدول الغربية المتقدمة ومعظمها حقق النجاح بحتمية المنهج، بل هي خليط غير مفهوم بين الاثنين، مما افرز نظام ادارة هجيناً ومنحرفاً في نتائجه، وهذه الادارة المرتبكة منذ الاستقلال ظهرت عيوبها بعد التحرير، وباتت اكثر وضوحا خلال السنوات الاخيرة، وتحديدا بعد التحول الى نظام الصوت الواحد في انتخابات مجلس الامة، فتنامت المشاريع الفردية للنواب على حساب العمل المؤسسي، وزادت سهولة اتخاذ الحكومة لقرارات غير مدروسة او قليلة المهنية، لمواجهة تحديات حقيقية... بلا محاسبة.«النفضة» المطلوبة في الكويت يجب أن تشمل تطوير آليات البرلمان عبر العمل المؤسسي والجماعي، والتركيز على مهنية المشاريع، لا شعبيتها فقط، يقابل ذلك حكومة لا توزع مناصبها ومسؤولياتها وفقا لمعايير المحاصصة، كي تكون قادرة على تحديد مواطن الخلل واتخاذ القرارات وتقديم الحلول للمشكلات، بعيدا عن سياسات شراء الوقت والمسكنات.
«التقاعد» خلا من الأرقام والبيانات بلا توقعات مستقبلية ولا آثار على سوق العمل أو كلفة تصاعدية أو احتياطات!