تضم مسرحية "1776" الغنائية الشهيرة عن ولادة الولايات المتحدة مشهداً يوضح فيه بنجامين فرانكلين للمؤتمر القاري لمَ لم يعد يعتبر نفسه إنكليزياً، لقد شعر بالأسى لأن المستعمرين ما عادوا يُمنحون كامل حقوقهم كمواطنين إنكليز، إلا أن المسألة لم تقف عند هذا الحد، ذكر فرانكلين: "أنشأنا هنا عرقاً جديداً، عرقاً أكثر صلابة، أكثر بساطةً، أكثر عنفاً، أكثر جرأةً، وأقل رقياً، نشكّل قومية جديدة ونطالب بأمة جديدة". فكرتُ في هذا المشهد فيما كنت أتناول العشاء مع ثلاثة طلاب في تايبيه، حيث تدرس سيليا تشانغ، وتوني تشنغ، وبولي تشينغ في جامعة تشينغتشي الوطنية، إحدى أبزر مؤسسات التعليم العالي في تايوان، التقيت بهم خلال زيارة لتايبيه رعتها منظمة العلاقات الخارجية، وهي منظمة غير حكومية مقرها في تايوان تروّج للوعي الدولي لشؤون الجزيرة، وبعد إمضائي بضعة أيام في الإصغاء إلى دبلوماسيين وموظفين حكوميين في منتصف العمر، استغللت هذه الفرصة لأتحدث إلى شبان لا يولون خط الحزب أو المواقف الرسمية أي اهتمام، ورغبت في معرفة ما تعنيه لهم هويتهم التايوانية.في المناسبات النادرة التي تستقطب فيها تايوان اهتمام وسائل الإعلام في الولايات المتحدة (عندما حرص الرئيس المنتخب آنذاك ترامب على تلقي اتصال تهنئة من رئيسة تايوان تساي إنغ ون)، نسمع الكثير عن سياسة "الصين الواحدة"، وهي عقيدة قديمة تعتبر تايوان والصين القارية عنصرين لا ينفصلان في بلد واحد.
يتمسك النظام الشيوعي في بكين بعناد بهذا الادعاء، زاعماً أن تايوان ولاية صينية منشقة لا بلد منفصل، وخلال العقود التي كانت فيها تايوان دولة مستبدة خاضعة لحكم حزب شيانغ كاي-شيك الوطني، تبنت حكومة تايبيه وهم "الصين الواحدة"، مدعيةً أنها هي الحاكم الشرعي للصين كافةً.لكن تايوان تخلت عن هذا الوهم عندما أصبحت ديمقراطية في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن العلاقات مع الصين لا تزال ترخي بظلالها الثقيلة على المجتمع والسياسة في تايوان، إذ تبذل بكين قصارى جهدها لتستبعد تايوان من المنتديات الدولية، معربةً عن ردود فعل عدائية تجاه أي اقتراح بشأن معاملة تايوان كدولة ذات سيادة، وفي الوقت عينه، للصين وتايوان علاقات اقتصادية متداخلة، فتشكّل الصين شريك تايوان التجاري الأكبر لأنها تستورد نحو 40% من صادرات الجزيرة، كذلك يبلغ عدد التايوانيين الذين يعيشون ويعملون في الصين قرابة المليونين، في حين تخطى الاستثمار الأجنبي المباشر التايواني في الصين 10 مليارات دولار سنوياً، علاوة على ذلك يزور ملايين السياح من البر تايوان كل سنة. ولكن لا تهديدات الصين العسكرية ولا مغرياتها الاقتصادية (ولا واقع أن 95% من سكان تايوان ينتمون إلى إثنية هان الصينية) دفعت مَن شاركوني العشاء إلى وصف أنفسهم بأي صفة غير تايوانيين، ولا يملك أي منهم ميلاً عاطفياً إلى الصين، ولا يرغب أي منهم في توحد الصين وتايوان. على العكس رفض هؤلاء الطلاب الثلاثة موقف "الصين الواحدة"،وعلى سائر العالم رفضه أيضاً.لا شك أن الطلاب لم يتفقوا على شتى التفاصيل، وخصوصاً كم يجب أن تكون السياسة الخارجية التايوانية حازمة،فطوال 25 سنة يسأل مركز دراسة الانتخابات في تايبيه سكان تايوان عما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم تايوانيين، أم صينيين، أم الاثنين معاً، وفي عام 1992 اعتبر 17% فقط أنفسهم تايوانيين فحسب، في حين صنّف 25% أنفسهم صينيين، ولكن بعدما ترعرع اليوم جيل جديد في جو من الديمقراطية، شهدت النسب تبدلات كبيرة: يعتبر 58% من المستطلَعين أنفسهم تايوانيين فحسب، في حين اعتبر 3% فقط من الشعب التايواني أنفسهم صينيين، وبين الشبان تبدو الهوية التايوانية عامةً تقريباً، ففي استطلاع للرأي أُجري عام 2013 اعتبر أكثر من 90% ممن لم يبلغوا الرابعة والثلاثين من العمر أنفسهم تايوانيين فحسب.بفضل الإجحاف الإنكليزي تحوّل المستوطنون الأميركيون من مواطنين إنكليز أوفياء يحبون سيادتهم (في عام 1767، كان فرانكلين لا يزال يكن إعجاباً كبيراً لجورج الثالث، معتبراً إياه أفضل ملك في العالم) إلى قومية جديدة تطالب بأمة جديدة. على نحو مماثل يشكّل عناد الصين العنيف اليوم أحد الأسباب التي تؤدي إلى تطورات مشابهة في تايوان. فالأمة الديمقراطية في تايوان حية وعفية، لكن "الصين الواحدة" ماتت، وساهمت بكين في القضاء عليها. * جيف جاكوبي* «بوسطن غلوب»
مقالات
تايوان ليست الصين والتايوانيون ليسوا صينيين
11-01-2018