التقى مسؤول كبير في مجال الأمن القومي بالبيت الأبيض في شهر مايو الماضي بواشنطن مسؤولين روساً بارزين، وقدّم لهم تفاصيل عن عملية سرية كانت إسرائيل قد تشاطرتها مع نظرائها الأميركيين، فشكل هذا الاجتماع صدمة للجواسيس المضادين الأميركيين المخضرمين، لم يُلقَ القبض على المسؤول الأميركي، وما زال يعمل في البيت الأبيض حتى اليوم، وإن كان يخضع لمراقبة دقيقة.لا شك أن هذا المسؤول هو دونالد ترامب، فقد أشعل لقاء الرئيس بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وسفيره إلى واشنطن آنذاك سيرغي كيسلياك، الذي لم يُسمح إلا للمصورين الروس بتغطيته، ناراً إعلامية كبيرة سرعان ما خبت لتنشغل وسائل الإعلام بانكشاف المزيد من المعلومات عن علاقات سرية بين شركاء ترامب وعملاء في الكرملين، لكن هذه الحادثة ظلت عالقة في أذهان المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين وحلفاء الولايات المتحدة القدماء في مجال الاستخبارات الخارجية الذين باتوا يتساءلون اليوم عما إذا كانوا يستطيعون الوثوق بأن الرئيس سيحفظ أهم أسرارهم.
«روسيا غيت»
طوال أكثر من سنة، أدت مسألة التآمر إلى فتح عدد من التحقيقات فيما صار يُعرف بفضيحة «روسيا غيت»، إذ يسعى المحقق الخاص روبرت مولر للإجابة عن السؤال: هل نسّق فريق ترامب عمداً حملته مع الكرملين ليلحق الأذى بهيلاري كلينتون في انتخابات عام 2016؟ لا شك أن هذا الاشتباه بحد ذاته سيئ بما يكفي، لكن مؤسسة الأمن القومي الأميركية توصلت اليوم إلى إجماع أكثر سوداوية: تحوّل الرئيس إلى بيدق بيد عدو الولايات المتحدة، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهذا السيناريو يبدو مخيفاً جداً، حتى إن كتّاب House of Cards كانوا سيعتبرونه مستحيلا، حتى اليوم. وفي مقابلة على شبكة «سي إن إن» في 18 ديسمبر، وصف جنرال القوات الجوية المتقاعد جيمس كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية الأميركية، ترامب بدمية بوتين، وأضاف كلابر أن الرئيس الروسي كان «ضابط حالة» أو مجنِّد جواسيس في الاستخبارات السوفياتية KGB، وأنه «يجيد التعاطي مع أحد الأصول، وهذا ما يقوم به مع الرئيس، وهذا ما أراه». (عندما طُلب منه توضيح معنى تعليقه على «أحد الأصول»، أجاب كلابر: «أقول ذلك مجازياً»). غرّد جون سيفر، عميل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية متخصص في الشأن الروسي: «هذا مذهل! من الجيد أنه تجرأ على توصيف سلوك بوتين، فما كان يجب أن ينطلي هذا على رئيسنا».سهولة انخداع ترامب
يعتبر مجنّدو الجواسيس المخضرمون ترامب هدفاً سهلاً لبوتين، الذي أمضى سنوات في الاستخبارات السوفياتية في تقييم مدى ضعف الأهداف واستغلالها، ويشيرون إلى سهولة انخداع ترامب بالمديح، كما عندما شكر بوتين الرئيس ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لمساعدته في إحباط مؤامرة لتنفيذ عملية تفجير في سانت بطرسبرغ، ويوضح آشا رانغابا، عميل خاص سابق في قسم الاستخبارات المضادة في مكتب التحقيقات الفدرالي: (يشكّل رئيس الولايات المتحدة حلم كل مجنِّد «جواسيس»، لأنه يتفاعل دوماً مع الثناء والمديح ويعبّر يومياً عن أفكاره على «تويتر»). ويوافقه هاري «سكيب» براندون، الذي عمل سابقاً في منصب نائب مساعد مدير الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفدرالي، الرأي قائلاً: «يعلن علانية مراراً أنه يتبع حدسه، وإذا كان هذا صحيحاً، فقد يشكّل عن غير قصد أحد أصول روسيا الأبرز».وهكذا دواليك، فلا شك أن المعلومات التي تكشفها التحقيقات بشأن ترامب تدريجياً إنما بشكل متواصل (صفقاته مع مستثمرين روس، ولقاءات شركائه الكثيرة غير المعلنة مع عملاء الكرملين، ورفضه قبول الأدلة على تدخل روسيا في الانتخابات، وإفصاحه عن المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية) ترسم صورة أكثر سوداوية.قلق حيال الرئيس
يعتقد بعض العملاء الاستخباراتيين المخضرمين أنه ما عاد من الممكن اليوم تبديل الرواية بشأن ميل ترامب إلى بوتين، مع أن الرئيس الأميركي يصر على أن هذا الميل بريء ومفيد للسلام العالمي، ويشير غلين كارل، مسؤول استخبارات وطنية سابق في وكالة الاستخبارات المركزية تولى تقييم المخاطر الخارجية: «يواصل الجميع المراوغة رافضين تقديم تقييم واضح عما يحدث، لكن ترامب، وفق تقييمي، يعمل مباشرةً مع الروس».لكن الإسرائيليين لا يستطيعون الادعاء أنهم لم يتلقوا أي تحذير، فقبل أيام من تسلّم ترامب سدة الرئاسة في شهر يناير عام 2017، رحّب مسؤولون استخباراتيون أميركيون بارزون بوفد من نظرائهم الإسرائيليين في واشنطن، فيخبر الصحافي الاستخباراتي المخضرم رونين بيرغمان أن هذا اللقاء لم يشهد أي تطورات مثيرة للاهتمام، مع أن الأميركيين عبّروا عن قلقهم حيال رئيس قلل من أهمية عملهم السابق، «ومع بلوغ اللقاء نهايته، أعلن خبير تجسس أميركي بارز بجدية أنه ما زالت هنالك نقطة إضافية: يعتقدون أن بوتين يملك (وسائل ضغط) على ترامب، لذلك نصح: توخوا الحذر»، حسبما يؤكد بيرغمان وتقرير نُشر لاحقاً عن Vanity Fair.بعد خمسة أشهر، ندم الإسرائيليون على ما كشفوه لرئيس وكالة الاستخبارات المركزية الجديد في عهد ترامب، النائب الجمهوري السابق مايك بومبيو، فقد صُعقوا حين قرؤوا تقارير إعلامية عن أن ترامب أخبر وزير الخارجية الروسي وسفيره عن عمليتهم البالغة السرية في سورية التي هدفت إلى اختراق خلية تابعة لتنظيم داعش الإرهابي، ويفترض خبراء الاستخبارات الأميركيون أن الروس تشاطروا هذه المعلومات مع حلفائهم في إيران، عدو إسرائيل.أخبر كلابر، الذي يؤلف اليوم كتاباً عن مسيرته في عالم الاستخبارات، نيوزويك في رسالة إلكترونية أن «الإسرائيليين كانوا وما زالوا مستائين من ذلك لأنهم تأكدوا مرة أخرى أنهم لا يستطيعون الوثوق بنا لنحفظ الأسرار التي يطلعوننا عليها».تسريبات
على نحو مماثل، عبّر بعض حلفاء الولايات المتحدة الاستخباراتيين المقربين عن انزعاجهم من تسريبات ترامب، حسبما أطلع مسؤول بارز سابق في مجال الأمن القومي نيوزويك طالباً عدم ذكر اسمه عند مناقشة مسائل حساسة مماثلة. وأضاف: «سمعتُ أن البريطانيين مترددون في إطلاعنا على معلومات عن عملية تخريب روسية ليس لأسباب أمنية بل سياسية، لا يريدون التصادم مع ترامب».يشير أيضاً محلل آخر، جوزف فيتساناكيس، أحد محرري مدونة Intel News، إلى أن العلاقات بين كبار المسؤولين الاستخباراتيين في المملكة المتحدة وإدارة ترامب «متوترة جداً»، ويتذكر أن ترامب أغضب لندن خلال حملة 2016 عندما ادعى بدون أي دليل أن نسختها من وكالة الأمن القومي، مكاتب الاتصالات الحكومية (GCHQ)، تنصتت على اتصالاته، ورفض الاعتذار.يتوصل المسؤولون الاستخباراتيون الأميركيون والأجانب الأقل شأناً عادةً إلى طرق للتعاطي مع التصادم على المستويات الرفيعة، لكن هجمات ترامب المتكررة على حلف شمال الأطلسي لم تثر استياء حلفاء واشنطن المقربين فحسب، بل ولّدت أيضاً تساؤلات عما إذا كان الرئيس قد خُدع ليسهّل هدف بوتين الطويل الأمد: تقويض الاتحاد الأوروبي. ويوضح فيتساناكيس: «يقول بعض زملائنا في أوروبا الغربية إن تشاطر المعلومات بات محصوراً بمكافحة الإرهاب وبعض المعلومات البحرية، أما تشاطر المعلومات المرتبطة بروسيا، فقد توقف بالكامل تقريباً».في المقابل، نجهل ما سيكون تأثير هجمات ترامب على «الإرهاب الإسلامي الأصولي» في علاقات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالخدمات الجاسوسية في الأمم العربية، والإفريقية، والآسيوية. تاريخياً اعتمدت هذه الوكالة على هؤلاء الشركاء المحليين لتبادل المعلومات والأفكار بشأن المجموعات المقاتلة، مع أنها شعرت أحياناً بالندم عندما نجح عملاء مزدوجون في التسلل إلى صفوفها.غضب الإسرائيليين
وراح المسؤولون الإسرائيليون على غير العادة ينددون علانية بـ«خيانة ترامب» في شهر مايو، ولم يهدأوا إلا أخيراً، ورغم ذلك ما زلنا نستشف مدى غضبهم بعد مرور أشهر، فعندما أجرى نائب مدير جهاز الموساد السابق رام بن براك مقابلة مع كيم دوزيه من Cipher Brief، قال: «تقضي القاعدة بأنني إذا أعطيتك معلومات لمساعدتك، لا تقدمينها إلى طرف آخر من دون إذني، ولي ملء الثقة بأنه لن يكرر ما فعله، لأن ذلك يلحق الأذى بعلاقتنا».لكن كل الإشارات تُظهر أن ترامب لا يأبه لمن يتعرض للأذى إن كان ذلك يخدم مصالحه وكبرياءه، فرغم تراكم الأدلة على تدخل روسيا خلال صيف عام 2016 وبلوغها ذروتها مع تقرير شهر يناير الذي أعده كلابر ونظيره في وزارة الأمن الداخلي جيه جونسون والذي جاء فيه أن الكرملين عمل على إيصال ترامب إلى منصبه، من الواضح أن الرئيس سمح لمستشاره المقبل في مجال الأمن القومي مايكل فلين بالتآمر مع الروس بشأن رفع العقوبات. ومن الجلي أيضاً أنه لم يأبه لطرده بعدما علم أن فلين كذب على مكتب التحقيقات الفدرالي بشأن هذه المسألة، فغرّد ترامب أن التهم التي وُجهت لاحقاً إلى فلين والصفقة التي عقدها تشكلان «مصدر خزي لأن أعماله خلال المرحلة الانتقالية كانت مخالفة للقانون، ولا نملك ما نخفيه».مخاطر التجسس
حدثت كل هذه التطورات رغم تحذير مكتب التحقيقات الفدرالي بكل وضوح ترامب بعيد ترشيحه من مخاطر التجسس الروسي المحتملة، وفق شبكة NBC News، كذلك زار عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي هوب هيكس، التي تعمل منذ زمن متحدثة باسم ترامب، بعيد تبوئه منصبه وأخبروها أن بعض العملاء الروس المعروفين كانوا يحاولون اختراق الإدارة الجديدة، إلا أن هيكس، التي تزعم أنها نقلت هذا التحذير إلى مستشار البيت الأبيض دونالد ماكغان، لم تُتهم بأي مخالفة قانونية.لكن المشادة المتواصلة مع ترامب بشأن إنكاره أن كل هذا لا يشكّل «تآمراً» مع الروس ليست سوى مصدر إلهاء، حسبما يؤكد مسؤولون استخباراتيون مخضرمون، وتشبه هذه المشادة البحث عن بديل جلي لا وجود له، علاوة على ذلك تغفل «عما يظهر جلياً أمام أعيننا»، وفق ما يذكره عميل مكتب التحقيقات الفدرالي رانغابا، الرئيس السابق لمكتب وكالة الاستخبارات المركزية في موسكو سيفر، ومسؤول عمليات وكالة الاستخبارات المركزية السابق أليكس فينلي في مقال مشترك نُشر في موقع Just Security الإلكتروني. ويتابعان: «لا شك أن روسيا قامت بمحاولات عدة غير مسبوقة لاختراق حملة رئاسية أميركية، وأن محاولات التقرب هذه التي أقدمت عليها لم تواجَه بالصد، وأن الجميع بدون استثناء أخفوها».يختمان: «قد لا تُعرض هذه الوقائع داخل قاعة محكمة، وقد لا تكون غير مشروعة حتى، إلا أنها تمثل خطراً أمنياً قومياً قائماً وواضحاً لا يمكننا تجاهله». "نيوزويك إنترناشونال"