نحن ذيل الذاكرة الحية
الكويت تنمو وتتغيَّر أسرع مما نتصوَّر، ومما ندرك ونستوعب ونحتسب، تغيُّرات كبيرة وشديدة أسرع من أن يكون بالإمكان رصدها، خصوصا على مستوى الوعي الاجتماعي، الذي يصعب رصده، طالما نحن نعيش وندور في قلب بؤرة دوَّامته. الرصد يحتاج إلى الخروج والبُعد من عين الدوامة، حتى يتم تحليلها وفهم مجرياتها وتأثيرات تحولاتها.التغيُّرات الكبيرة بالتركيبة السكانية لها أثرها، وأيضا زيادة أعداد الزيجات الناتجة عن زواج الذكور الكويتيين والإناث الكويتيات من جنسيات أجنبية، أفرزت مواطنين بهويات متعددة ذات انفتاحات فكرية مختلفة، وأيضا زيادة الجامعات الأجنبية، وكذلك ازدياد التعليم بالمدارس الأجنبية، إلى جانب الانفتاح على كل أنواع شبكات التواصل العالمي، الذي بات يمحو فروقات الهويات الوطنية، ويرسم هيئة مواطن عالمي موحد بالعادات والسلوك والطباع... كل هذه الأسباب سارعت بتغيير حياة وسلوك وعادات المجتمع الكويتي الصغير من جهة، وصغره هذا ساعد أكثر على سرعة نمو وانتشار التغيير فيه، كما أن الوفرة المادية مكنت أيضا من زيادة وتيرة نهج التغيير.
ويُعد جيلي، الجيل البترولي، والجيل الذي قبلنا، هم آخر من يتذكر ويحمل ذاكرة صفات وعادات وتقاليد وذكريات الكويت التي كانت، بكل مواصفات زمن ماضيها، الذي كان ولن تعرفه ولن تتذكره الأجيال القادمة، وخاصة بعد مرور عشرين أو ثلاثين سنة مقبلة عن زمننا الحاضر، لأنه ربما لن يكون هناك أي أثر للكويت التي عشناها وعرفناها طالما كانت وتيرة المحو سريعة بهذا الشكل في مجتمع صغير سريع الانقلاب على نفسه. أتذكر في طفولتي أنه كان من النادر رؤية الأجانب، وإن وُجِدوا فقد كانوا من الجنسية الهندية أو الإنكليزية، وكانت لهم أعمالهم الخاصة، وكانت العائلات تقريبا تعرف بعضها بعضا بشكل حميم ومتلاحم. الآن، مع اطراد النمو تباعدت العلاقات، وقلَّت بينهم المعرفة، وبات الخوف والحياء من الآخر شبه منعدمين في مجتمع اختلفت وتنوَّعت تركيبته، وأصبحت التركيبة الشبابية، التي تمثل 70 في المئة من المجتمع، هي الأغلبية، وتتصدر مشهد التغيير في المجتمع، وبات جيلي والجيل الذي قبلي تابعين أو راضخين وقابلين بقيادة التغيير المجتمعي الآتي من الشباب، وهذا ما نراه الآن من قبول العائلات لكل ما يأتي به الشباب من تقاليع وعادات لتصرفات وسلوكيات ومهن لم تكن مقبولة في الماضي، وكانت ترفضها تماما العائلات المتمسكة بالتقاليد والأصول "السنعة"، عكس ما نراه الآن من تفاخرهم بكل ما يقوم به أولادهم من مهن، وإن كانت مستهجنة في الماضي، حتى إن كانت مهناً محترمة شريفة، لكنها لم تكن تناسب القيمة المجتمعية، مثل: مهنة الطباخ أي "الشيف"، أو البنت المروِّجة للإعلانات المسماة "الفاشينستا"، أو الخياطة، والكوافيرة، والمزينة، مهن عديدة انطوت تحت أسماء جديدة أعطتها لمعانا مختلفا لذات المهنة، ورفعت عنها صفة الاستهجان. المجتمع تغيَّر، وبات يتقبَّل كل ما يطرأ عليه من تغيُّرات بانفتاح كبير، وباتت الحرية المتاحة للشباب في ممارسة حياتهم بالطريقة التي تعجبهم، ولم تعد هناك قيود تكبلهم أو تحد من إرادتهم، حتى إن كانت بعض التصرفات غير متوقعة منهم.وبعيداً عن عدد المتابعات الكبيرة "للفاشينستات" الكويتيات، ودورهن في زيادة الترويج الاستهلاكي، يلفت نظري الترويج للعمل التطوعي الخيري الذي تقوم به بشكل فردي أروى الوقيان، التي فتحت دربا جديدا للشباب للتطوع لخدمة ومساعدة الإنسان في أي مكان، وهناك مثال آخر للتغيير وتقبل عقلية الآباء لما يريده الأبناء لمستقبلهم بمنتهى التسامح والتصالح مع اختلافات الأجيال، وضمن الاتجاه ذاته أرى الشباب ذوي الدماء المختلطة الذين باتوا يمثلون زيادة واضحة في المجتمع، وهذا بدوره بات يضخ دماء جديدة لعادات وتقاليد مهجنة بهويات متعددة، وإن حملت الجنسية الكويتية، وهو ما سلطت الضوء عليه في روايتي (الجميلات الثلاث) في بطلة الرواية، فهي من أب كويتي وأم إنكليزية، وسوف تتزوج من مغنٍ تايلندي، بمباركة أسرتها، وباتت شخصيتها تتنقل بين هوياتها بكل سهولة وبساطة، وعرفت كيف تتصالح وتتعامل معها، وهي تمثل لي نموذجا كبيرا للتغيير الذي حصل في المجتمع الكويتي، وليست النموذج الأخير.