ما الذي يسند الكتابة الجيدة ويكرِّسها؟ سؤال أتعبني التفكير فيه. فأخذتُ أسوق الاحتمالات، وأضع جملة من الفرضيات، التي سرعان ما تتبعثر وتذوب إزاء ما يعارضها من نقض، ليعود السؤال من جديد أكثر إلحاحاً.والمقصود بـ"الكتابة" في هذا السياق، تلك التي تصل إلى جمهور القرَّاء، وتنتشر وتتواتر عبر الزمن. ثم لا تقف متجردة ومنفردة كمعنى، إنما يتم الربط المحكم بينها وبين كاتبها. وفي مرحلة لاحقة يتقدم اسم الكاتب وشخصه، ليحتل الصدارة، فتصبح الكتابة تابعة له، وتُعرِّف به ككيان إنساني خلاّق.
أول الإجابات المحتملة عن سؤال: "ما الذي يسند الكتابة الجيدة ويكرسها؟"، ما يخص "الهيئة" الظاهرية، أي صورة الكاتب وشكله وصوته، أو بالأحرى جماع هيئته الظاهرية وما تمتلك من عناصر جذب. فهناك كُتاب يمتلكون الوسامة والأناقة وإيقاع الصوت المريح والمعبِّر، وكلها عناصر تضيف إلى معاني كتاباتهم أبعاداً جمالية. وقد ترفع أسهمهم في اجتذاب القلوب والعقول. وقد دأبت الصحف ووسائل النشر والإعلام على إبراز صورة الكاتب كعنصر ملازم لنصوصه، ما ساهم في عقد تلك الصلة المباشرة بين الهيئة والمعنى لدى القارئ، وخلق في لاوعيه آصرة الربط بين "الكتابة/ المضمون" و"الصورة/ الشكل".قريب من عنصر الهيئة لدى الكاتب، هناك سمة "القَبول"، أو ما يسمى "الكاريزما"، وهي هبة ربانية أصيلة تتأتى للإنسان من حيث لا يحتسب. وقد تتغلب "الكاريزما" على الشكل والهيئة وتغلبهما، وتصنع للكاتب جاذباً سحرياً لا يُقاوم. أما لو اجتمع المظهر الجمالي والقبول، فتلك نعمة عظمى، قد تشكِّل فارقاً أساسياً في بناء مجد الكاتب، وتكريس ميراثه. ولنا أن نستحضر ما نشاء من صور الكُتاب المبرّزين، ونرى مدى تأثير صورهم وهيئاتهم في خلق تصوراتنا عما يكتبون، ثم قيمة ما يكتبون. أحمد شوقي وهو يسند رأسه بكفه مفكراً. طه حسين بنظارتيه السوداوين وملامحه الجادة المتطلعة إلى الأعلى. أدونيس وهو يحمل الغليون ويجلس متكئاً. غادة السمان وهي لا تزال تراوح عند "بروفايل" النظرة الجانبية الآسرة، لامرأة تقول لك إنها تمتلك السحر والفكر. فهد العسكر بعقاله وجاكيتته وعينيه المختبئتين وراء الأسود الغامض. محمود درويش بنظارته الطبية السميكة وملامحه المحتقنة وصوته المبحوح... وغيرهم. أما مَن لم يمتلك الشروط الجمالية المتعارف عليها، فقد امتلك القبول و"الكاريزما"، أو الظرف، أو الحضور الطاغي، كبدر شاكر السياب، وعبدالله البردوني، وأحمد فؤاد نجم. كل هذه الصور والهيئات صنعت لنا ذلك التناصّ التلقائي مع ما نقرأ، وعزّزت الربط بين الشكل والمضمون.هذه الفرضية قد تجد ما يناقضها، وقد لا تكون المسؤولة الوحيدة عن تكريس الكتابة الجيدة. فنحن لم نرَ للمتنبي وطرفة والجاحظ وأبي العلاء، وغيرهم من أعلام التراث الإنساني، صوراً ولا رسوماً، ورغم ذلك، فكتاباتهم مكرّسة عبر شروط أخرى فنية وقيمية. فهل ساهمت أمور أخرى في رفع حظوظهم؟ كالعلاقات مثلاً؟ ووضعهم الاجتماعي؟ وبيئاتهم الثقافية؟مسألة "العلاقات" تبدو لي شديدة الحضور كعامل مساند، وخاصة في عصرنا الراهن. وأعتقد أن أي كاتب يعوّل على صعود سلم الشهرة والتداول، فعليه بالعلاقات، وإجادة فنها. والعلاقات، كما هو معروف، باتت علماً وفناً، وذات صلة بالذكاء الاجتماعي، والانفتاح، وتعلّم مهارات التواصل. فإن اجتمعت الكتابة الجيدة وهذه الجهود في مجال العلاقات، فربما أنتجت حصاداً مستحقاً.تبقى فئة من الكُتاب لن يشفع لهم تميزهم وأصالتهم، ما داموا خارج إطار الهيئة الجمالية والكاريزما وفن العلاقات. هؤلاء يسقطون في فجوات الزمن، وتجرفهم أمواج الأيام نحو شواطئ اللامبالاة. ولا عزاء لكُتاب الظل.
توابل - ثقافات
سؤال الكتابة
16-01-2018