حول قصيدة التفعيلة!
![مسفر الدوسري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1507745577082709700/1507745592000/1280x960.jpg)
ومن ناحية أخرى، ساهمت هذه الوسائل في تغيير مضامين القصيدة، فهذه الوسائل تعتمد على التسجيل اللحظي للحدث، ما استدعى تغيير نمط الطرح للنص الشعري، فلم تعد القصيدة تحتمل الطبخ على نار هادئة، وأخذ ما تشاء من الزمن لتنضج، ومن ثم تظهر إلى النور. النص الشعري، بضغط هذه الوسائل الحديثة، أخذ طابع الرغيف الطازج يفضل تناوله ساخناً، ولم تسمح التكنولوجيا للنص بذلك الترف والدلال في الوقت، لهذا الأمر من وجهة نظري إيجابية عظيمة، إذ إن ذلك جعل الشعر هاجساً يومياً للشاعر، وليس هاجساً مزاجياً، كما كان في السابق، لذلك اعتمد النص الشعري المعاصر على التكثيف، الذي يغني عن صياغة معلقة شعرية، تماهياً مع الطبيعة المعاصرة التي صنعتها التكنولوجيا، علما بأن محاولات اختزال القصيدة بدأت منذ الستينيات على أيدي شعراء كبار من مجلة شعر اللبنانية، والتي كان يترأس تحريرها الشاعر يوسف الخال، وتضم في طاقم تحريرها شعراء وأدباء كبارا، كأدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج والماغوط وشعراء آخرين. وقد حاول هؤلاء الشعراء الترويج للقصيدة المكثفة والكاملة الدسم في ذات الوقت، وتخليص القصيدة من الحشو، لتخرج القصيدة عارية كالشمس. ورغم مما يبدو صغرها في أعيننا، فإن نورها يغطي الأرض. وحتى نزار قباني تابع هذه المحاولات، من خلال إصدار أكثر من ديوان بقصائد بعضها لا يتجاوز العشر كلمات. وعلى مستوى شعراء الخليج كان فايق عبدالجليل، رحمه الله، أول من آمن بوجوب تخليص القصيدة من ثيابها الرثة، حتى إنه في بداية الثمانينيات كان لديه ديوان جاهز للطبع بعنوان "تواقيع"، كل القصائد فيه مختزلة جداً، ويبدو لي أن اختيار العنوان بمثابة إجراء احترازي من انتقاد الذائقة العامة، إلا أن جميع تلك المحاولات لم تنجح، ولم تتماشَ مع الذائقة الشعرية العربية الكلاسيكية، التي اعتادت ألا يروي ظمأ عاطفتها سوى القصائد عشرية الأبيات، وما فوق.ويمكن القول في هذا السياق إن التكنولوجيا نجحت فيما عجز عنه الشعراء، فيما يتعلق بالنص الشعري، ولمصلحة الشعر الحديث، رغماً عن أولئك الذين لايزال بهم شيء من رائحة الجاهلية، ويسمون القصيدة المختزلة "ومضة" شعرية. الغريب أن هؤلاء المنحازين للقصيدة الطويلة دائماً يبحثون عن بيت القصيدة في هذا النص الطويل!