جورجيا تختار خفض المواجهة مع روسيا
بعد الحرب الروسية-الجورجية في 2008 تراجع عدد السياح الروس في جورجيا، لذلك كان الزوار يُخاطبون باللغة الإنكليزية، لكنهم عادوا اليوم وعادت معهم لغتهم.ويبدو أن الجيل الجديد من القادة السياسيين عملي أيضاً في تعامله مع روسيا نفسها، ومع أن العلاقات الدبلوماسية لا تزال مقطوعة بين البلدين إلا أن مسؤوليهما يعقدون محادثات دورية منتظمة، كذلك تساهم المبادرات العملية في تسهيل التجارة والسفر والنقل بين البلدين، وفي ذلك يوضح الدبلوماسي والسياسي اللاتفي أويارس كالنينس: "تنحني هذه الحكومة إلى الخلف بغية تفادي معاداة روسيا".
يختلف الوضع كل الاختلاف عن مقاربة جورجيا خلال عهد الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، الذي استمتع باستفزاز بوتين، داعياً إياه "ليلي-بوتين"، كذلك لم يتردد في الإعراب عن إعجابه بالولايات المتحدة، التي اعتبرته في المقابل منارة الديمقراطية في منطقة حكام مستبدين، لكن التوتر مع روسيا بلغ ذروته في حرب دامت خمسة أيام وخسرت خلالها جورجيا. وفي سنوات ساكاشفيلي الأخيرة في الحكم بدا حاكماً أكثر استبداداً، وفي انتخابات 2012 البرلمانية تعرض حزبه للهزيمة على يد حركة الحلم الجورجي بقيادة الرجل الأكثر ثراء في البلد بيدزينا إيفانيشفيلي. فهل تبتعد جورجيا عن الغرب وتعود إلى المدار الروسي؟ ليس تماماً. تقول سالوميه زورابيشفيلي، نائبة مستقلة في البرلمان وكانت وزيرة الخارجية خلال عهد ساكاشفيلي: "استُبدلت نبرة المواجهة التي سادت خلال عهد ساكاشفيلي بنبرة مضبوطة، لكن المحتوى لم يتبدل كثيراً"، فما زالت جورجيا تميل إلى أوروبا وتهدف إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي مسألة الحدود الأساسية تبقى متمسكةً بموقفها، فبدعم من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، تعتبر الحكومة الإقليمين الانفصاليين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللذين يحظيان برعاية روسية، منطقة جورجية محتلة.يرحّب مسؤولو الاتحاد الأوروبي بمقاربة الحكومة الجورجية العملية "القائمة على مبادئ" في تعاطيها مع روسيا، ويأملون أن يساهم الخطاب الأكثر هدوءاً وتطويرا لروابط التجارة والنقل في تحسين الجو العام وفرص حل الخلاف بشأن الحدود. في المقابل يزداد إقليمَا أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اندماجاً بالبنى الروسية مع إقفال نقاط العبور ونقل روسيا السنة الماضية حدود أوسيتيا الجنوبية بحكم الواقع إلى مسافة أبعد داخل الحدود الجورجية.في هذه الأثناء تواصل جورجيا اقترابها من الاتحاد الأوروبي، ويعتبرها المسؤولون إحدى الدول الأوفر حظاً لدخول هذا الاتحاد بفضل الإصلاحات السياسية، مثل تحسين حقوق الأقليات، كذلك دخل "اتفاق الشراكة"، الذي يسهّل التجارة بين جورجيا والاتحاد الأوروبي، حيز التنفيذ في عام 2016، وفي مارس 2017 منح الاتحاد الأوروبي الجورجيين القدرة على دخول دوله بدون تأشيرة دخول، لكن تحقيق التقدّم الإضافي سيكون أكثر صعوبة، وستواجه جورجيا مشقة كبيرة لتستوفي شروط الاتحاد الأوروبي المتعلقة بمعايير البيئة وحماية العمال. علاوة على ذلك يعرب البعض عن قلقهم من أن حركة الحلم الجورجي الحاكمة تقمع المعارضة، وعقب انتخابات 2012، حظيت جورجيا بالكثير من المديح لخوضها أول عملية انتقال سياسية مسالمة منذ استقلالها، لكن عشرات المسؤولين من الحكومة السابقة اعتُقلوا آنذاك، بعدما اتُّهموا عموماً بسوء استخدام السلطة، وشمل هؤلاء رئيس الوزراء السابق فانو ميرابيشفيلي، الذي ما زال مسجوناً. لكن المقلق حقاً الغموض الذي يلف إيفانيشفيلي، الذي ما زال الرجل الأوسع نفوذاً في البلد مع أنه تنحى عن منصبه كرئيس للوزراء عام 2013، وقبل دخوله معترك السياسة أحاطت به هالة غريبة بعدما اشتهر بإحسانه السخي وذوقه غير المألوف في الحيوانات الأليفة، وتذكر بعض الشائعات أنه اقتنى حيوانات من الكنغر، وحمار الوحشي، والبطريق، كذلك اشترى المنازل لسكان قريته، وتبرع بالمال لتشييد كاتدرائية تبليسي الجديدة الفاخرة. فضلاً عن ذلك قدّم أحياناً مساعدات مالية للمثقفين والمفكرين الذين يعانون ضائقة، وما زال يحرك الخيوط من قصره ذي الطابع المستقبلي المطل على تبليسي، وساهم كرمه هذا في تعزيز شعبيته ونفوذه، ونتيجة لذلك يُقال إن الوزراء يُعيّنون أو يُنحون وفق رغبته. يعتبر البعض أن إيفانيشفيلي يمنح سياسيي الحلم الجورجي المنتخبين سلطة أكبر، وإذا صح ذلك فإنه يعني أن البلد يدخل مرحلة جديدة، كما تفتقر الحكومة الجورجية اليوم إلى عقيدة شاملة، لذلك عند مواجهتها تحدي التعاطي مع روسيا وإقناع الناخبين بأن الإصلاحات التي قد تسمح لجورجيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تستحق العناء، تستطيع إنجاز ذلك باعتمادها رؤية ما، وهذا ما يتمتع به ساكاشفيلي رغم عيوبه، وتؤكد زورابيشفيلي: "كان مبدعاً مجنوناً". صحيح أن جورجيا أفضل حالاً من دون جنونه، إلا أنها تبدو بأمس الحاجة إلى الإبداع.