في 16 أكتوبر وللمرة الأولى منذ عام 2003 دخلت قوات الأمن العراقية بقوة مدينة كركوك المتنازع عليها والغنية بالنفط، وأنهت أربعة عشر عاماً من السيطرة الكردية هناك، والآن أصبح الحكم المحلي في حالة جمود بسبب المقاطعة الكردية لمجلس المحافظة، وتدهورت الأوضاع الأمنية بسبب التمرد الكردي الذي تفشّى بسرعة، وهو الأول من نوعه منذ عام 2003. وتشهد مدينة كركوك كل أسبوع أكثر من ست هجمات يقوم بها الأكراد ضدّ قوات الأمن العراقية، سواء بالقنابل الصاروخية أو القنابل المزروعة على جانب الطرق أو قذائف الهاون أو عمليات الاغتيال، ومن المقرر أنّ تجري المحافظة انتخابات محلية في 12 مايو للمرة الأولى منذ عام 2005، غير أنّ كركوك المتعددة الأعراق والثقافات أصبحت أكثر من أي وقت مضى أشبه ببرميل من البارود، وللمحافظة عليها من «الانفجار» يتعين على السلطات العراقية والكردية نزع فتيل التوترات بسرعة والتوصل إلى توازن مستدام، وفي هذا الصدد ستحتاج إلى بعض المساعدةً من الخارج.
إنهاء الوضع الراهن
منذ سقوط صدام حسين أجرى العراق انتخابات إقليمية في ثلاث مناسبات في الأعوام: 2005 و2009 و2013، بيد أنّ محافظة كركوك، التي هي في موضعٍ تنازعٍ خاص بموجب قوانين الائتلاف والمادة 140 من الدستور العراقي، لم تجرِ أي انتخابات منذ عام 2005، وقد ألغيت عمليات الاقتراع المحلية اللاحقة هناك لأسباب عملية وسياسية مختلفة. ومنعت الكتل الكردية في مجلس النواب الاتحادي مراراً وتكراراً مرور اللوائح الانتخابية في المحافظة التي تسمح لكركوك بالمشاركة في الانتخابات، وعارضت تلك الكتل بالتحديد فكرة تقسيم مجلس المحافظة بالتساوي بين المجتمعات العرقية الطائفية الرئيسة الثلاث في المنطقة، يحصل بموجبها كل من العرب والتركمان والأكراد على 32 في المئة من المقاعد ويحصل المسيحيون على النسبة المتبقية وهي 4 في المئة (ويجدر بالذكر أنّ التركيبة العرقية الفعلية في كركوك هي موضع جدل محتدم).ونتيجةً لذلك، بقي الحكم في كركوك على الشكل الذي حدّدته انتخابات يناير 2005، عندما قاطع العديد من العرب السنّة الانتخابات وحصل ائتلاف الأحزاب الكردية على 26 مقعداً من مقاعد المجلس الإقليمي البالغ عددها 41 مقعداً. ومنذ ذلك الحين حصل الأكراد على أغلبية لا مجال للطعن فيها في المجلس، وأصبحت المحافظة تحت إشراف محافظٍ كردي ورئيس شرطة كردي طوال هذه المدة.ولكن أصبح الوضع الراهن مُعَرَّضاً للتهديد في الأشهر الأخيرة، ففي 14 سبتمبر طلب رئيس الوزراء حيدر العبادي من مجلس النواب توجيه التهم إلى محافظ كركوك نجم الدين كريم الذي أُجبر في ما بعد على الفرار من المحافظة عندما طردت القوات الاتحادية قوات البيشمركة الكردية بعد ذلك بشهرٍ واحد، ويواجه كلّ من نجم الدين وريبوار طالباني- رئيس مجلس المحافظة الذي ينتمي إلى «الاتحاد الإسلامي الكردستاني»- دعاوى قضائية تتعلّق بقرار «حكومة إقليم كردستان» بتوسيع نطاق التصويت على الاستقلال الذي جرى في سبتمبر ليشمل كركوك المتنازع عليها أيضاً. وقد تولّى نائب حاكم المحافظة- الذي يشغل منصبه منذ مدة طويلة- السياسي العربي راكان سعيد الجبوري، منصب المحافظ بالنيابة منذ أكتوبر، على الرغم من أنّه سيتم على الأرجح استبدال طالباني بالمرشحة الكردية جوان حسن. ولم يتمكّن المجلس من عقد اجتماعاته منذ انطلاق العمليات العسكرية في أكتوبر، لعدم اكتمال النصاب القانوني الذي يتطلّب حضور واحد وعشرين عضواً، إذ يقاطع اجتماعات المجلس جميع الأعضاء الأكراد البالغ عددهم ستة وعشرين عضواً. وقد صرّح بعضهم أنه لا يمكن للمجلس أن ينعقد في كركوك في الوقت الذي تعيش فيه تحت الاحتلال العسكري الاتحادي.خيارات السياسة الأميركية
في 20 أكتوبر، ذكّرت وزارة الخارجية الأميركية بقوة جميع الأطراف بضرورة الحكم المشترك في كركوك وغيرها من المناطق الأخرى المتنازع عليها، إذ قالت: إن «إعادة تأكيد السلطة الفدرالية على المناطق المتنازع عليها لا يغير وضع هذه المناطق بأي شكل من الأشكال. فهي ستظل موضع نزاع إلى أن يتم إيجاد حل لها وفقاً للدستور العراقي، وإلى حين يتوصل الطرفان إلى اتفاق، نحثّ كل منهما على إجراء تنسيق كامل بغية ضمان الأمن وإدارة هذه المناطق». ومنذ ذلك الحين، حافظ الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة على بعثة استشارية عسكرية صغيرة في قاعدة «K-1». والآن، يتعين على واشنطن أن تضع الأسس البلاغية والعملية لسياسة أميركية طويلة الأجل في كركوك.وفي الوقت الراهن يتصدّر الحفاظ على الحد الأدنى من الأمن كل الأولويات، فاعتباراً من عام 2003 قامت الولايات المتحدة بمجهودٍ رائع للحد من مخاطر الصراع العرقي الحادّ في كركوك، واستثمرت رأسمال دبلوماسي وعسكري لوضع حد نهائي لمخاطر التصعيد. وفي عام 2010، على سبيل المثال، أنشأ الجيش الأميركي «الآلية الأمنية الثلاثية المشتركة» بين الولايات المتحدة والعراق والأكراد للحد من التوترات خلال الانتخابات المحلية التي جرت في المنطقة في شهر مارس، وتطلبت «الآلية الأمنية المشتركة» قيام القوات الأميركية بدوريات مشتركة وإبقاء نقاط التفتيش في الشوارع الخطيرة في كركوك.أمّا الظروف الحالية فتختلف كثيراً عن الأيام التي كان يوجد فيها أكثر من 100 ألف جندي أميركي، وفي هذا الإطار، قد يشعر بعض المراقبين بالقلق من أن تؤدي التغيّرات السياسية الجذرية إلى قيام مناخٍ خطير من الانتخابات المحلية ذات القدرة التنافسية العالية التي قد يُنظر إليها كتعداد رسمي على الأساس العرقي. وأياً كان الأمر يتعين على الولايات المتحدة و»بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق» أنّ يشجّعا المشرّعين الاتحاديين العراقيين على إدراج ترتيبات لكركوك في مشروع قانون انتخابات المحافظات الذي يقومون بتعديله حالياً، وقد طلب مجلس النواب العراقي من مجلس كركوك توفير موارد لهذه المسألة، غير أنّه لا يمكن استقاء أي مساهمات إلّا بعد استئناف الهيئة المحلية عملها. وبالتالي يُعد تفعيل مجلس كركوك أولوية أخرى بالنسبة إلى واشنطن وإلى «بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق»، وهو أمرٌ لن يحدث إلى أن يحصل الأعضاء الأكراد على ضمانات بعدم اعتقالهم بسبب دورهم في استفتاء «حكومة إقليم كردستان» أو التهم ذات الصلة. وبمجرّد انعقاد المجلس بإمكانه أيضاً انتخاب محافظ جديد، سيكون كردياً على الأرجح، وستكون جميع هذه المهام أسهل لو رأى الأكراد دلائل تشير إلى وجود تنسيق أمني تحت إشراف دولي.وعلى المدى البعيد يجب على الائتلاف ألّا ينسى الاتفاق العرقي الأساسي الوارد في المادة 140 من الدستور العراقي، الذي دعا إلى حلّ النزاعات المتعلقة بالملكية ومقر الإقامة، وإجراء إحصاء سكاني، واستفتاء حول المستقبل الإداري لكركوك، فضلاً عن التغيّرات المحتملة في الحدود. كما ينص الدستور بوضوح على أنّ حقول النفط في كركوك يجب أن تُدار من الحكومة العراقية، لذا يتعين على جميع الأطراف الموافقة على هذا الشرط خلال المفاوضات التي تدعمها الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار تتحمّل الولايات المتحدة مسؤوليةً خاصة، بصفتها المحتلّ السابق للبلاد والوسيط الذي أسهم في ولادة الدستور، وذلك لكي تضمن وفاء العراقيين بالالتزامات المنصوص عليها في المادة 140 عند معالجة النزاعات على كركوك وغيرها من المناطق. وقبل الانسحاب العسكري الأميركي في عام 2011، أقامت واشنطن قنصليةً في «قاعدة كركوك الجوية الإقليمية»، وقيّمت خيار الاحتفاظ بمحطةٍ دبلوماسية هناك فيما بعد، كما حصل في البصرة وأربيل، وقد يكون من المفيد إعادة النظر في هذا الخيار في ضوء التطورات المحورية في كركوك، حيث إنّ خطر معاودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» ونشوب صراع جديد بين القوات الاتحادية والكردية يبرر وجود بعثة مراقبة أميركية مستمرة.* مايكل نايتس وبلال وهاب* معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى* مايكل نايتس زميل في معهد واشنطن، وقد عمل في جميع محافظات العراق وأمضى بعض الوقت ملحقاً بقوات الأمن في البلاد، وبلال وهاب زميل في المعهد.