ما قــل ودل: نحن... والنعامة... والبطريق (1)
يبدو أن لنا، نحن العرب، نصيباً من صفات النعامة، بأنها تخفي رأسها في الرمال، ظناً منها أنها تكون بذلك آمنة من سهام الصيادين، ولنا كذلك نصيب من صفات طائر البطريق في أن البطريق اسمه طائر وله جناحان ولا يطير، ويعيش في الجليد وليس له فرو، وإذا دخل الماء يأكله الحوت، وإذا خرج إلى اليابس يأكله الدب، وفوق كل هذا يصفق.وأعتقد أننا كالنعامة نخفي رؤوسنا في الرمال عندما تتملكنا الغيرة على أقطارنا العربية، بسبب نشر ما يحدث فيها من وقائع وحقائق، وقد أصبح العالم أشبه بقرية صغيرة، تتناقل أنباؤها بسرعة الريح إلى كل بقاع المعمورة، حتى قبل أن تعلم بها سلطات الدولة ذاتها، ويكون الأمر أكثر خطراً على حرية الرأي وحق التعبير عنه عندما يتعلق الأمر بحرية البحث العلمي، وعندما تساق واقعة من الوقائع في قطر من الأقطار العربية في بحث علمي ينشر في قطر آخر، وأسوق في هذا ما تعرضت له من نقد لبعض ما كتبت.
نقد لمقال سابق ليمن القامات الرفيعة التي أعتز بها في الكويت طبيب بارع في مهنته، ذو خلق رفيع في تعامله مع مرضاه، دائرة من المعارف، مثقف بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، عاتبني عتابا رقيقا عندما رآني بعد مقالي الذي نشر على هذه الصفحة يوم الأحد الموافق 24/ 12/ 2017 تحت عنوان "حق العسكريين في الانتخاب بين تعزيز الديمقراطية وإبعادهم عن اللعبة السياسية"، قائلاً لي: لم أقرأ مقالك، لأن لي رأياً هو أن الكتابة عن مصر يجب أن تكون في مصر.وكان هذا المقال قد حمل عنواناً فرعياً "خطأ في مصر"، وهو الخطأ الذي وقع عندما منح قانون الانتخابات في مصر حق التصويت للعسكريين في عام 1976، ثم عدل القانون لتصحيح الخطأ، وتم حرمان العسكريين من هذا الحق مرة أخرى، استجابة لحكم قضائي ناشدت فيه المحكمة أولي الأمر بتعديل قانون الانتخابات، حيث لا يتوافر لتصويت العسكريين في المعسكرات الضمانات والمتطلبات الضرورية لنزاهة الانتخابات، وقد استشهدت بهذا المقال لأنبه أولي الأمر في الكويت إلى النأي بالعسكريين عن لعبة الانتخابات، وهي لعبة خطيرة في مجتمع صغير كالكويت.شجاعة الكلمة في البحث العلمي لقداستها وقد اشتد صاحبنا في العتاب عندما هممت بالرد عليه قائلاً لي: اكتب ما شئت عن الكويت، طالما أنت في الكويت، أما الكتابة عن مصر خارج مصر فهي شجاعة زائفة.فآثرت عدم الاسترسال في نقاش لا جدوى منه، وأن تكون رسالتي في الرد على ما التبس عليه هي هذا المقال ليكون توضيحا لكل قرائي الأعزاء الذين قد يلتبس عليهم هذا الأمر كذلك.وأعتقد أن ردي على هذه المسألة ينطلق من أمرين: أولهما، أن وطنيتي وحبي لبلدي هما أمران لا أقبل أن يزايد أحد عليَّ فيهما. ثانيهما، أن ما أملكه من شجاعة الكلمة في البحث العلمي والدستوري الذي أعتبر نفسي من رواده، أن الكلمة في هذا البحث وغيره من أبحاث علمية لها قداستها، ولست أبغي منها سوى أن أقول ما أراه حقا، ولو رآه غيري خلاف ذلك، فله ولي ثواب المجتهدين، متوكلاً على الله في كل ما أكتب، فالله خير حافظ.تصديت لمؤتمر بغداد وأستعيد في هذا المقام القرار الذي أصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، بمنع بعض أصحاب الأقلام من دخول الكويت، ونشر كشفاً بأسمائهم في كل الصحف، وكنت واحداً من هذه الأسماء التي ضمت الكاتب محمد حسنين هيكل وغيره من قامات كبيرة في الكتابة لا أذكرها الآن، لنشري مقالاً في صحيفة "الأهرام" بتاريخ 8/ 5/ 1979 تحت عنوان "قبل أن يفكر العرب في عقاب مصر"، ونشر على صفحات جريدة "السياسة" الكويتية في 23/ 7/ 1979، انتقدت فيه مؤتمر بغداد الذي عقد لعزل مصر.قلت فيه: في هذه الأيام العصيبة التي تعيش فيها أمتنا العربية أحلك أيام تمزقها، اجتمع مؤتمر بغداد لوزراء الخارجية العرب والاقتصاد.وكالعادة في مثل هذه المؤتمرات تُتلى الكلمات، وتبيض وجوه وتسود وجوه، ويختلفون، ويعود الوزراء إلى حكوماتهم للتشاور ثم يتفقون. وكالعادة فإن القرارات التي تصدر بعد هذا الاختلاف وهذا الاتفاق، تصدر من هذه المؤتمرات حتى لا يراق ماء الوجه وإنقاذا لهيبة المؤتمر من أن تضيع.وكالعادة فإن مثل هذه القرارات تصدر منذ مولدها ضعيفة هزيلة، كالشاة النحيفة المريضة التي لا تقوى أرجلها على حملها، فيأنف أصحابها حتى من ذبحها.وكالعادة، فإن القرارات لا تردّ وطنا سليبا ولا تحرر شبراً من الأرض، بل لا تأتي بجديد للواقع العربي الذي يمزقه الضباع.وكالعادة، فإن المؤتمرات تعود للانعقاد لبحث المشكلة من جديد وتُتلى الكلمات، وتبيض وجوه وتسود وجوه، ويختلفون ثم يتفقون، ولكن لا تعود الأرض التي ضاعت.ولكن ربما كان هذا المؤتمر يختلف عن سوابقه من مؤتمرات لعدد من الأسباب:أولا: أن مصر قلب العروبة النابض بالحياة قد غابت عنه، فغاب عنه دورها الذي لا ينكر في كل قضايا المصير العربي.ثانيا: أن جزءا كبيرا ومهما من الشعب العربي في مصر قد غاب تمثيله في هذا المؤتمر.ثالثا: أن هذا المؤتمر لم يجتمع ليعاقب إسرائيل أو ليحرر الأرض التي اغتصبتها.رابعا: أن هذا الاجتماع قد خصص لعقاب مصر التي ناضلت عبر تاريخها الطويل من أجل هذه الأمة العربية ومن أجل ترابها وتراثها وحضارتها ومن أجل تحرير كل شبر في الأرض العربية، من الجزائر إلى تونس إلى عدن وإلى كل دولة تحررت واستقلت بعد إنشاء الجامعة العربية فانضمت إلى عضويتها.ومن الطريف أن القرار الذي أصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ظل حبراً على الورق، لأن أحدا لم يطبقه، فقد كنت في الكويت خلال هذه الفترة، وكنت أسافر إلى مصر وأعود منها دون أن يكون اسمي على قوائم الانتظار، وكانت الضغوط التي تعرضت لها الكويت في هذه الفترة في مؤتمر بغداد معروفة، والتي دفعت المجلس المذكور إلى إصدار هذا القرار. ولعلّي في هذا السياق أشيد بمناخ الحرية، حرية الرأي وحق التعبير عنه وحرية البحث العلمي، وقد كفلهما الدستور في المادة (36) وطبقهما حكام الكويت منذ صدور هذا الدستور نصاً وروحاً.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.