هل يمكن القضاء على العنصرية؟ ربما
العنصرية والتمييز وخطاب الكراهية تنتمي إلى نفس العائلة، فلا علاقة لها بدين أو فكر أو عقيدة معينة، ولكن من يمارسونها يتلبسون لبوس الدين أو العرق أو غير ذلك، ويقتاتون على عقدة تفوق تجعلهم يعيشون أوهاماً بالتفرد على غيرهم، ويبررون لأنفسهم الهيمنة، وإكراهات الآخرين. قد يكون ذلك الكاره أو العنصري متلوناً في انتماءاته، أو أفكاره، ولكن تجده بذات الحالة الذهنية، أينما ذهب وأينما حل.ألقيت قبل يومين محاضرة في كيمبريدج البريطانية، بعنوان "الاقتصاد السياسي للكراهية". أحاول منذ فترة طويلة، من خلال معاينة لمآسٍ سببتها العنصرية، فهمها من مداخل أخرى تفسر أسباب استمرار النهج العنصري الذي يسيطر على أجزاء كبيرة من الدنيا، وبالتالي مآس إنسانية يعيشها البشر الآن، حيث يزيد عدد اللاجئين على 60 مليون إنسان، ولم يكن بأقل سوءاً فيما مضى من الزمان. سألني أحد الأساتذة إن كانت هناك أدوات ووسائل للقضاء على العنصرية وخطاب الكراهية؟ قلت إن المدخل الأول هو العدالة المرتكزة على المساواة وتكافؤ الفرص، ووعي ذكي يعزز التماسك المجتمعي، لا يقبل تلك الممارسات، ولا يقرها لأنها فقط تعبر عن الأغلبية في المجتمع، تتبعها حزمة قوانين تناهض تلك الممارسات قولاً وفعلاً، ولا تكون من ذلك النوع من القوانين جميلة الصياغة، ضعيفة التنفيذ، وألا تكون السلطة منحازة لطرف اجتماعي على حساب طرف اجتماعي آخر، إضافة إلى نظام تعليمي متوازن قادر على بث الأفكار المعتدلة، التي لا تعزز أي نظرة دونية أو كراهية لأي فئة اجتماعية دون الأخرى، بما في ذلك النظرة الدونية للمرأة.
بطبيعة الحال هذه الأدوات ليست سهلة التطبيق في مجتمعات تتفاخر بالتفرقة والتمييز ضد الآخر، أو مجتمعات تدافع فيها السلطة عن الأغلبية ضد الأقلية، أو العكس حين تكون السلطة تنتمي إلى أقلية ضد أغلبية، وترى انتماءها ذاك سبباً محورياً لبقائها في السلطة.إلا أن التجارب التي مرت بها البشرية عموماً ليست واحدة، فبلد كالنرويج مثلاً، والذي حصل على استقلاله سنة 1901 ، بعد احتلال سويدي ثم دنماركي امتد مئات السنين، لم يكن بالضرورة مجتمعاً متسامحاً، فكيف خرج من تركة ثقيلة من الإذلال والهيمنة الأجنبية ليصبح الدولة الأولى بمؤشر التنمية البشرية العالمي لعدة سنوات، في غضون قرن واحد من الزمان؟ لعله موضوع يستحق الدراسة والتمعن دون إجابة سريعة غير مدروسة. وفي مناطق أخرى بما فيها محيطنا يتقاتل المتقاتلون ويسفك بعضهم دماء بعض على حكاية اختلف عليها أجداد أجدادهم. جنوب إفريقيا تمثل تجربة أخرى لكنها ليست بذات الإشراق، حيث خرجت من مأزق نظام "الابارثايد"، وأنهت النظام العنصري القانوني، ولكن العنصرية الاجتماعية لما تنته فيها بعد.فالمسألة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، حيث تلعب مسارات الاقتصاد السياسي للعنصرية دوراً مؤثراً في ذلك. وللحديث بقية.