تنوير : زيارة السيد «بيب»
دهشة تسكنني لثلاثين عاماً لا يصيبها نقص كلما واجهت نفسي بسؤال: لماذا نخشى الاعتراف بمشكلاتنا؟تخيل معي كائناً فضائياً، لنطلق عليه اسم «بيب»، هبط على الشرق الأوسط، وبدأ التعرف إلينا من خلال الصحف والبرامج الحوارية واستطلاعات الرأي (لنستبعد نشرات الأخبار من هذا الموقف التخيلي) التي تثبت أن ثقافاتنا كلها متفوقة وتتمتع بالاستقرار، كما يشعر أفرادها معظمهم بالسعادة المتناهية، وبأن ثمة وظائف متوافرة ومحاربة الفساد على أشدها، والحريات مكفولة تماماً. لن يشك السيد بيب في أننا أكثر الشعوب تقدماً على وجه كوكبنا الصغير. لكن «بيب» الموهوم سيعيش بيننا لأشهر، وسيكتشف أننا لسنا كما ندعي، وسيبدأ التفكير مستخدماً السؤال الذي بدأت به المقال: لماذا تخشون الاعتراف بمشكلاتكم؟ لم يختلف المحللون كثيراً في أن الثقافات العربية على تنوّعها وعلى مشتركاتها أيضاً تحتاج إلى فعل تنويري عميق وجذري، لكن الاختلاف يبدأ حين نتساءل: من أي نقطة نبدأ.
يقول هوركهايمر وأدورنو في كتابيهما «جدل التنوير»: «يعتبر التنوير وعلى مرّ الزمن وبالمعنى العريض تعبيراً عن فكرة التقدم، وهدفه تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيداً... كان برنامج التنوير يهدف إلى فك السحر عن العالم. أراد التحرر من الأساطير وأن يحمل للمخيلة سند العلم».هكذا يبدو التنوير كما ظهر في أوروبا نقيضاً للفكر الأسطوري الذي يجعل من العقل تابعاً لكيان خارجه. إنه دعوة لجعل النظر العقلي النقدي مركزاً لعمليات التفكير والاعتقاد جميعاً. لم يخل التنوير الأوروبي من مشكلات رافقته منذ البداية، مثل التعميم وتحويل فكرة العلم إلى أسطورة جديدة شابها كثير من ظلال السحر القديم، ما أودى بالعالم (إلى جانب عوامل أخرى) إلى حربين عالميتين طاحنتين. لكن المسار الذي اتخذه التنوير الغربي ظلّ قادراً على تصويب نفسه لسبب رئيس هو القدرة على نقد الذات وعدم المصادرة على الأفكار المخالفة. طريق شائكة ما بين الغرب الذي أطلق العلم بصورته المعملية التجريبية الجامدة في بداية التنوير، ثم بدأ مشوار التعديل والنقد الذاتي، وبين الشرق الذي لم تزل قطاعات كبيرة منه تعيش عصر السحر، والكسل العقلي، وفقر الدم العلمي، وترفض التغيير وتميل إلى السكون. أولى خطوات هذه الطريق هي أن نحاول التعرف إلى ملامح ذواتنا الثقافية على تنوعها، كي نتعرف إلى طبيعة تنويرنا المنشود. نقطة الانطلاق هي تحديد: من نحن؟ أين نقف؟ ما العوائق التي تحول دون تحديد موقعنا على خريطة الفكر والوجود؟ هل نخشى تعريف ذواتنا الثقافية كما هي؟ هل نمارس تزييفاً ذاتياً لوعينا؟ حتى متى سنبقى في الازدواجية الشهيرة: نحب الغرب ونكرهه، نشتهيه ونخشاه، نتمنى أن نكونه ونرهب حريته؟ هل نهدر أعمارنا، كأجيال سبقتنا، في الخوف من فكرة التغيير؟ هل التغيير حقاً هو المفزع، أم الجمود والموات والتحلل الحضاري الذي نقترب منه؟أرجو ألا تكونوا نسيتم صديقنا الفضائي السيد {بيب}، الذي أخذ وقتاً طويلاً في تحليل أحوالنا، ورصد تناقضاتنا وكذبنا الساذج على أنفسنا، وقبل أن ينتحر ملقياً نفسه من على حافة الأرض في الفضاء الكوني الواسع، سمعه بعض الناس يردِّد السؤال نفسه: لماذا تخشون الاعتراف بمشكلاتكم؟