ماكرون الفاتح

نشر في 27-01-2018
آخر تحديث 27-01-2018 | 00:00
عرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسمياً قبيل القمة الإنكليزية-الفرنسية إعارة بريطانيا نسيج بايو، حيث يصف هذا النسيج الحملة التي انتهت بنصر وليام الفاتح، دوق نورماندي ولاحقاً ملك إنكلترا، في معركة هاستنغز عام 1066 على هارولد غودوينسون، آخر الملوك الأنغلوساكسون، وتلائم هذه التحفة الإطار العسكري للمؤتمر الذي سيُعقد في الأكاديمية العسكرية الملكية في ساندهورست قرب لندن وسيركّز على التعاون الدفاعي الإنكليزي-الفرنسي.

ولكن على الصعيد الأشمل تشكّل إعارة بريطانيا هذا النسيج خطوة دبلوماسية مناسبة، إذ ترمز إلى هوية ماكرون وإلى ما يريد تحقيقه في الداخل والخارج.

كذلك تعكس مقاربةَ ماكرون السياسية بحد ذاتها، التي تهدف إلى إنتاج فرص وفئات سياسية جديدة، ويبدو أن هذه المقاربة تحقق النجاح، فبعد مرور ثمانية أشهر على تسلمه منصبه تبلغ شعبيته 53% في فرنسا، فضلاً عن أنه أعاد هذا البلد بثقة إلى مكانته الأساسية في القيادة الأوروبية وعلى المسرح العالمي.

مغامرات حمائية

سلك ماكرون محلياً درباً موالياً للسوق عموماً، وخصوصاً من خلال إصلاحه الكبير لسوق العمل الفرنسية في شهر سبتمبر عام 2017، لكنه لم يتردد أيضاً في خوض بعض المغامرات الحمائية بغية التصدي للخطر الشعبوي، منها تأميمه مؤقتاً عدداً من أحواض بناء السفن المهددة باستيلاء شركات إيطالية عليها، وتحجيمه عملية تحديد الأسعار في قطاع الزراعة، ومخالفته قواعد «العمال المنتقلين من دولة إلى أخرى داخل الاتحاد الأوروبي»، علماً أن هذه القواعد تسمح للشركات بنقل الموظفين في سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة من دون الالتزام بالكامل بقوانين العمل المحلية. صحيح أن من الصعب تقييم تأثير خطوات ماكرون الاقتصادية في غضون ثمانية أشهر فحسب، إلا أن ثقة الشركات الفرنسية نمت بالتأكيد.

أما على صعيد الاتحاد الأوروبي، فلطالما ردد ماكرون الشعار «قارة أوروبية تحمي الأوروبيين». صحيح أن ماكرون يريد سوقاً حرة عموماً في الاتحاد الأوروبي إلا أنه يخشى إغراق هذه السوق بسلع بخسة الثمن من أسواق ناشئة مثل الصين.

تعددية الأطراف

قد لا ينجح ماكرون في تحقيق إصلاحات منطقة اليورو التي يرغب فيها على الأمد القصير نظراً إلى معارضة ألمانيا العامة للتكامل المالي الأقرب، مع أن الحكم النهائي في هذه المسألة يرتبط بالنتيجة التي ستفضي إليها مفاوضات الائتلاف الألماني. في الوقت عينه من الضروري تعديل مشروع ماكرون للتكامل الدفاعي الأقرب كي ينسجم مع حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن تحديد دور المملكة المتحدة فيه (إذا أُعطيت أي دور) بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ولا شك أن هاتين مسألتان دقيقتان، كما سنلاحظ خلال القمة بعد أيام، وعلاوة على ذلك يُعتبر ماكرون الحاكم الأوروبي الأكثر بروزاً على المسرح العالمي منذ انتخابه.

مواقف ماكرون الخارجية

يمتاز أسلوبه في السياسة الخارجية بتعددية الأطراف عموماً، ويتناقض تشديده على القيم المشتركة داخل أوروبا مع تردده في المناداة بهذه القيم في الدول غير الغربية، لكن هذه المقاربة الشاملة العالمية نسبياً (الدفاع عن القيم الأوروبية من دون فرضها على مَن يعيشون خارج أوروبا) منحته رأسمالاً سياسياً أتاح له تولي القيادة في عدد من المشاكل العالمية بحق، مثل التغير المناخي.

قاد ماكرون حملة التصدي لوجهة نظر إدارة ترامب بشأن التغير المناخي، إلا أنه قام بذلك من دون معاداة الرئيس الأميركي، الذي استمتع بزيارته باريس على ما يبدو، وعلى نحو مماثل تصدى ماكرون بحزم للدعاية الروسية، غير أنه شدد في الوقت عينه على ضرورة عدم التعامل مع موسكو بعدائية، ولا يختلف موقف ماكرون في الشأن الصيني. فخلال زيارته الرسمية الأخيرة تبنى الرئيس الفرنسي خطاً واضحاً بشأن التجارة، وخصوصاً فكرة أن مبادرة الحزام والطريق الصينية يجب أن تكون درباً ذا اتجاهين لا اتجاهاً واحداً مع الاكتفاء بأن تغرق الصين الأسواق الأوروبية بسلعها. في المقابل لم يدلِ ماكرون بأن تعليق عن سجل الصين في مجال حقوق الإنسان، متفادياً ما يعتبره «دبلوماسية مكبرات الصوت».

في الشرق الأوسط تبنى ماكرون وجهة نظر أقل ثنائية مقارنة بالولايات المتحدة، فقد أعرب عن رغبة في إقامة علاقة أقوى مع إيران فاقت كل ما شهدناه مع مَن سبقوه في سدة الرئاسة في الأزمنة المعاصرة.

أما في الشأن الإفريقي فقد وسّعت فرنسا بقيادة ماكرون وجودها المناهض للإرهاب في الساحل الإفريقي، معززة نجاح عمليتها في مالي، كذلك تبنت فرنسا موقفاً متشدداً في الأمم المتحدة ضد تهريب البشر من ليبيا عبر البحر الأبيض المتوسط في خطوة تتماشى مع جهود ماكرون للحد من تدفق اللاجئين إلى فرنسا.

سياسات معاصرة

من الواضح على الأمد القصير أن فرنسا استعادت فاعليتها في الداخل والخارج، وأن ماكرون تحوّل إلى لاعب بارز على المسرح العالمي.

لكن طموحاته بدأت لتوها تعكس إعارة نسيج بايو مدى حس ماكرون التاريخي، ولتكرار التاريخ أو بالأحرى تفادي ذلك نرى فكرة (السياسات العالمية المعاصرة) هي المهيمنة، إذ لجأت عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحركة ترامب كلتاهما إلى الشعبوية بغية إعادة إحياء ما اعتبرتاه عصراً ذهبياً مضى، بغض النظر عما إذا كان قادتهما شعبويين حقاً، وفي المقابل يعتبر ماكرون أن تاريخ الشعبوية في أوروبا يشكّل الهدف الذي يتصدى له مشروعه الإصلاحي بالتحديد، فيسعى الرئيس الفرنسي إلى تقديم بديل ناجح للشعبوية في أوروبا، إذا أردنا ألا ينهار الاتحاد الأوروبي بحد ذاته نتيجة عجزه عن الإصلاح.

ويدرك ماكرون هدف الاتحاد الأوروبي الرئيس ليس على الصعيد المادي فحسب، بل أيضاً كجواب لسياسات الهوية التي مهدت الدرب أمام الحرب عام 1914 ومرة أخرى عام 1939، لذلك بدا ملائماً أن يقدّم خطابه البارز بشأن أوروبا في 26 سبتمبر عام 2017 بعيد دخول حزب شعبوي يميني البرلمان الألماني لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا شك أن ماكرون مصيب في نظرته إلى التاريخ، لكننا نأمل أن يتمكن من الفوز في هذا الجدال.

● إميلي سيمبسون- «فورين بوليسي»

back to top