مودلياني الدافئ في شتاء لندن
معارض الفن لم تتكاسل في موسم شتاء لندن، لكني تكاسلت عن ملاحقتها، تحاشياً للبرد. معرض الفنان الإيطالي مودلياني Modigliani (1884 - 1920) في Tate Modern افتُتح منذ فترة، لكني عجزت عن حضور الافتتاح. أول البارحة تحينت فرصة هدأة البرد، وخرجت إليه. أخذني "الأندرﮔراوند" إلى كاتدرائية St. Paul في قلب لندن، ومن هناك مشيتُ درباً لا يقل جمالاً وسكينة عن لوحة مودلياني التي أعرف، يقطع حديقة الكاتدرائية التي تتعالى على يمينك بفخامة تليق بلندن، ثم يوصلك إلى نهر "التّيْمس"، يقطعه بجسر صغير خاص بالمشاة، وكأنه أُعد خصيصاً لمتحف Tate Modern، لأنك ما إن تنتهي منه، حتى تواجهك عمارة المتحف، بمدخنتها الشامخة، تمتد واجهتها على ضفة النهر لمئتي متر. كانت محطة مولدات كهرباء منذ 1947، ثم هُجرت في 1981، وأُعيدت صياغتها كمتحف للفن في عام 2000. لندن تحتفي بمودلياني على هذه الرحابة لأول مرة. 11 قاعة بمئة لوحة، ترعى تطور الفنان، منذ مجيئه من مدينته Livorno الإيطالية إلى باريس عام 1906، حتى وفاته المبكرة عام 1920. في الوهلة الأولى من المشاهدة أعجب من صفتين: اعتماده فن البورتريت في كل أعماله، والنساء العاريات ضمناً، ثم صفة التكرار في أسلوب التناول، تحسه حين تنظر للقاعات على مبعدة، حتى صارت مُحاكاة لوحته يسيرة على يد مقلدي اللوحات، لكن بصرك أمام كل لوحة يأخذك إلى مدى آخر لا مكانة للتكرار فيه. ثمة سكينة في اللوحة، لا تتناسب مع فوضى حياته التراجيدية؛ جسداً وروحاً. فقد جاء باريس ومرض السل كامن في جسده منذ صباه، وسط هيمنة كاثوليكية لا تنظر إلى اليهودي بعين الرضا، مع مشاعر المهاجر الإيطالي المشرَّد.
الكاتب الفرنسي جان كوكتو، وله بورتريت بين اللوحات، يقول: "إن البورتريت لا يُشبهني، لكنه يشبه مودلياني"، ولعله يعني العناصر البارزة التي تمثله، والتي يعتمدها مودلياني في لوحته: الوجوه الطويلة، البيضوية، والعيون التي بشكل اللوز، واللون الذي لا يغادر الوردي، الأزرق والكستنائي، والرقاب الأنبوبية المائلة أو المستقيمة، والأطراف المنحنية. عناصر شكلية توحي بمشاعر أقرب إلى الأسى. على أن لوحته تنحو منحى اختزالياً، فهو يعتمد الخط المطواع في رسم الهيئة، إلى جانب تدرج الألوان، ولا يشغل نفسه بالتفاصيل. يقترح النقاد تأثره بسيزان في الميزة الأولى، وتأثره ببيكاسو، الذي كان صديقاً في باريس، في الثانية. ولعل حبه للنحت، مع قلة أعماله النحتية التي تحتل قاعة واحدة، يُسهم في ميله إلى الاختزال في لوحته التشكيلية.جاء مودلياني من عائلة يهودية مهاجرة في الأصل إلى إيطاليا، انتفع منذ طفولته من أمه، المولعة بالأدب والفن والموسيقى. تعرف على أساليب الفنانين الكلاسيكيين في متاحف فلورنسا. قرأ نيتشه ولوتريامون وتأثر بهما. وحين جاء باريس تعرف على فنانيها، آنذاك، وعلى أساليبهم المختلفة، إلى أن حقق أسلوبه المحبب الخاص الذي نعرفه به اليوم. وأقول المحبب لأنه، وهو يعيش وسط التيارات الطليعية المتطرفة في نزعتها التعبيرية، لم يكن مثل النمساوي Egon Schiele في نسائه العاريات، ولا مثل بيكاسو في تحطيم المعايير السائدة. ورغم هذا، حين أقام معرضه الشخصي الوحيد عام 1917، هاجمته الشرطة، بسبب عارياته اللواتي تجرأ قليلاً في الكشف الحيي عن شيء من محرماتهن. آخر سنة من الحرب العالمية الأولى خرج مودلياني، مع مَن خرج، إلى الجنوب الفرنسي، ثم عاد عند انتهائها. كانت معه جيني، التي استقر على العلاقة معها، والتي لم توافق عائلتها على زواجهما. تعرف عليها وهي في عمر 19، وكانت مُلهمة لوحات عديدة. أنجبت منه طفلة، وفي باريس حملت منه بوليد آخر. لكن مودلياني كان يلفظ آخر أنفاسه، بفعل اشتداد مرض السل. توفي بين يديها في 24 يناير، وفي اليوم الثاني ألقت بنفسها وبحملها من بيت أهلها في الطابق الخامس. ولم تُدفن إلى جانبه إلا عام 1930. بعد 85 سنة من لوحة التعاسات السوداء هذه بيعت واحدة من لوحاته العارية في "كرِستي/ نيويورك بمبلغ 170.000.000 دولار!