يبدو أننا نحن العرب لنا من صفات النعامة، أنها تخفي رأسها في الرمال، ظناً منها أنها تكون بذلك آمنة من سهام الصيادين.كان هذا هو الاستهلال الذي استهللت به مقالي يوم الأحد الماضي، بسبب ما تعرضت له من نقد أحد الأصدقاء لمقال لي نشر على هذه الصفحة يوم الأحد 24/ 12/ 2017، وقد اشتد صاحبنا في العتاب عندما هممت بالرد عليه، قائلا لي: اكتب ما شئت عن الكويت طالما أنت في الكويت، أما الكتابة عن مصر خارج مصر فهي شجاعة زائفة.
وأتفق معه في أن تكون الكتابة عن مصر في مصر، ولكن لسبب آخر هو أن تصل الرسالة التي يحملها قلمي إلى القراء في مصر، عندما يكون، الموضوع متعلقا بمصر، أما مقالي الذي كان محل انتقاده فقد كان حول اقتراح بقانون بمنح العسكريين في الكويت حق التصويت، وهو ما نبهت في مقالي المذكور إلى خطورته مستشهدا في ذلك بخطأ مماثل وقع في مصر عام 1976، وعدل عنه بعدما كشف القضاء المصري خطورته على نزاهة الانتخابات.ليست شجاعة زائفة بل هو حقإلا أنني أستميحه عذرا في أن أختلف معه في أن يحرم المواطن من حرية الرأي وحق التعبير عن رأيه في الشؤون العامة لبلده، وقد يمضي أغلب سنوات عمره خارجه، وقد منح القانون المغتربين حق التصويت، ومارسوا فعلا هذا الحق بعد ثورة 25 يناير أكثر من مرة في سفارات بلدهم، فكيف أمارس حق التصويت وأنا محروم من إبداء رأيي في شؤون وأحوال بلدي، وأن يجري حوار بيني وبين أبناء بلدي على صفحات صحف البلد الذي اغتربنا إليه، بالقدر المتاح في هذا البلد، خصوصا وقد لا يتاح للمغترب لأن يكتب في صحف بلده، وقد احتكر الكتابة فيها المقربون لهذه الصحف، وأذكر في هذا السياق أنني التقيت بالأستاذ والفقيه الجليل د. أحمد كمال أبو المجد في الغردقة بمصر، وعندما تبادلنا الحديث حول أحوال مصر، وكان ذلك قبل ثورة 25 يناير، قال لي إنه أرسل مقالا إلى صحيفة الأهرام، ولم تنشره، ولا أحد يختلف معي حول هذه القامة الرفيعة، وقلمها الذي يقطر عذوبة ورقة.وأحب أن أشير إلى أن مقالي الذي تصديت فيه لمؤتمر بغداد الذي تم فيه عزل مصر لإقدامها على اتفاقية كامب ديفيد والذي دافعت فيه عن مصر قلب العروبة، والذي نشرت بعض فقراته في مقالي الأحد الماضي كان قد نشر على صفحة الأهرام في مصر في 28/ 5/ 1978، بعد أن امتنعت الصحف الكويتية عن نشره إلى أن نشر بعد ذلك في صحيفة السياسة الكويتية، وبعد أن خفت حملة الصحافة ضد مصر.أمانة البحث العلميوأذكر في هذا السياق أيضا، أن النائب المحترم عبدالله النيباري جاءني عندما كنت خبيراً بمجلس الأمة وكتبت مقالاً على صفحات "الأنباء" في عددها الصادر في 24/ 11/ 2002 تحت عنوان "عندما يصدر القانون منعدما ولا أثر له"، شرحت فيه ما يجب أن يكون عليه القانون من التزام بخاصتي العمومية والتجريد، تعليقا على مشروع قانون أقرته لجنة الشؤون التشريعية القانونية بمجلس الأمة الكويتي، وقد استشهدت في ذلك بقانونين صدرا في مصر مخالفين لخاصتي العمومية والتجريد هما، القانون رقم 116 لسنة 1964 بتعيين موظف بقانون استثناء من أحكام قانون الوظائف العامة وكل من القانونين صدرا في حقبة الرئيس جمال عبدالناصر، وإعادة تشكيل الهيئات القضائية في مصر بالقانون 83 لسنة 1969، ليعزل القضاة الذين لا يتضمنهم التشكيل الجديد.وأقدر لكليهما هذا العتاب الرقيق، فالطبيب المعاتب وطني حتى النخاع والأستاذ عبدالله النيباري رمز من الرموز الوطنية وقومي وناصري حتى النخاع، وقد شكرت الأخ الفاضل عبدالله النيباري على حرصه وغيرته على سيرة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ولست أقل منه حرصا على ذلك.وأستعيد ما كتبته على صفحات "الأنباء" يوم 15/ 12/ 2002 تحت عنوان "لكي لا تضلّ المقاييس" موضحا للأستاذ عبدالله النيباري بعض الحقائق، التي تغيب عنه بيقين ولكن حميته القومية هي التي دفعته إلى هذا العتاب، وأعيد نشر بعض الأجزاء من هذا المقال، لتكون رسالة إلى صديقي الطبيب المصري، الذي ما زلت أكنّ له كل التقدير، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.الأمر الأول: أنه من الخطأ في البحث والدراسة العلمية تبني لغة التعميم، وإصدار الأحكام العامة، بتجاهل خصوصية السبب الذي يبنى عليه الرأي في الدراسة.ولست فيما أستشهد للتدليل على قضية دستورية مطروحة على بساط البحث، من وقائع حدثت خلال مرحلة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من تعيين فرد بقانون أو فصل 189 قاضياً بقانون، مؤرخاً لهذه المرحلة، أو مدوناً لتقييمي لها أو راوياً لسيرة الزعيم الراحل، فهي مهام لا أملك أدواتها بل هو بحث دستوري أعرضه مع التطبيقات العملية للمبادئ الدستورية أو للخروج عليها، فلا جناح ولا تثريب عليّ أن أعرض لأمثلة من بلدي.الأمر الثاني: إن استشهادي فيما أكتب بأمثلة من الماضي، إنما لتفادي أخطائها في المستقبل وليصبح الماضي غذاء الحاضر والمستقبل، وإن إسدال الستار على حقبة ما من حياة أمة، معناه أن طلاقاً بائناً قد وقع بين عهد مضى ومستقبل نتطلع إلى أن يكون أكثر إشراقاً بما يحول دون تواصل الأجيال والحضارات.الأمر الثالث:إن من الخطأ أن يقال إن حكما ما بلا أخطاء، وإن تاريخ أمة ما بلا أخطاء، وإن حقبة ما في حياة هذه الأمة بلا أخطاء، أو إن حاكماً ما لم يخطئ، ولو كان أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.وبالمثل فإن ما ينسب إلى حكم ما من وقوع خطأ أو أخطاء فيه لا يعني بالضرورة أن يكون الحكم برمته كذلك، أو أن الحقبة برمتها كانت شراً مستطيراً.إنه لا يوجد أحد معصوم من الخطأ، وقد قال رسول الله، صلى الله وعليه وسلم "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، ولعل أحدكم ألحن بحجته من البعض، فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فقد أقطعته جمرة من نار فلا يأخذها"، والتاريخ هو الحقيقة الوحيدة التي لا تغفر لأحد خطأ ولا تتستر على انحراف.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قــل ودل: نحن... والنعامة... والبطريق (2)
28-01-2018