يبدأ سيف الرحبي كتابَه «صالة استقبال الضواري... رحلات وأسفار» (دار «العين للنشر» في القاهرة) برحلة إلى الليل الإنكليزي الضارب في الترف والهدوء، تحديداً إلى «برمنغهام»، في الطريق إلى قرية «بريستون»، غير البعيدة عن هذه المدينة الصناعية، الملتصقة بمدينة روبن هود نوتنغهام. وحين يصل الشاعر العربي إلى ضفاف «نهر التايمز»، يبدأ مساءلة الغرب مُنتقداً الاستعمار البريطاني لعدد من البلدان في الشرق، بينها طبعاً بلاده.سيف لا يعمد إلى هجاء الغرب وحده، بل يجاوز ذلك بالتحديق في صفحات «نهر التايمز»، والذي يصفه قائلاً: «نهر صغير متدفق بحزن، أجلس على ضفته بخشوع روحي». لكن هذا الخشوع لن يمنعه من أن يوجه اللوم إلى النهر، الذي يمثل جزءاً من الإمبراطورية التي حملت السفن الحربية تمخر العباب نحو الهند والشرق الأوسط وإفريقيا، «التي استوطن أجزاء منها أسلاف عُمانيون» يقول الكاتب. يتابع: «وعلى ما تقطع به البراهين والأدلة، فإن الإمبراطورية البريطانية العظمى، وقفت كما في سائر المذابح والمجازر والاحتلالات خلفها، وأشرفت على التنفيذ والتحريض، بعدما جرَّدت العمانيين من أية وسيلة دفاع عن النفس، فذُبِحوا مثل قطعان النعاج أمام وحوش عَطشى كاسرة».
طاقة البوح
يستغل سيف طاقة البوح لديه في سرد أسفار طال بعضُها سنوات من أجل الدراسة في إحدى جامعات القاهرة، خلال السبعينيات من القرن العشرين، وقصر بعضها الآخر إلى رحلاتٍ مِهنية واستكشافية، وسط غابات ومدن، موزَّعة بين قارات العالم، خلال العقدين الماضيين. يحدثنا سيف عن عشرات المطارات التي دخلها بهيئته العربية المُسلمة، وعن مراتٍ كثيرة فُتشت فيها حقائبه بفظاظة، بسبب هذه الهيئة بالذات، إلى حد إلقاء شرطية غربية كتبَهَ ودفاترَه بعنف على الأرض، ذات مرة، في أحد مطارات دولة مُتحضِّرة.كان السفر إلى الغرب، سبباً في تعاسات واجهها الكاتب، مثلما يواجهها آلاف العرب المسلمين كل يوم، لكن هذا السفر، في المقابل، كان الطريقة المثالية للتخلص من حرارة العالم الثالث وقباحاته.قرر سيف التخلص من آلام ثلاثة عقود في دفعة واحدة، حيث كان محظوظاً بمهنته صحافياً ثقافياً عربياً، في التعرف إلى مساحات التلاقي، أو عدم التلاقي، بين الشرق والغرب، من وجهة نظر مُثقف عماني كبير. كذلك أسعده الحظ بلقاء كثير من رموز الثقافة العربية، والتعرف عن قرب إلى التناقضات التي يعيشها المثقف العربي بين شاطئين.معاناة وملاحقة
خلال تحركاته شرقاً وغرباً عرف الكاتب المعاناة والملاحقة الأمنية، من بغداد إلى دمشق كانت للملاحقة في المدن العربية صفة الاستمرار، بينما كانت تعني في القاهرة أمراً كوميدياً بحق، إذ يروي قصة المخبر المصري «عم حسان»، الذي كان يفرح بمطاردة المشتبه في انتماءاتهم السياسية من الطلبة القادمين من دول الخليج، لأنهم من الميسورين الذين يتنقلون في القاهرة بوسائل مواصلات مريحة كالتاكسي. هذا المخبر البسيط لم يكن يجد سعادته إلى أن يستقل هو أيضاً «تاكسي» للتمويه مستخدماً حقه كمخبر، بينما كان يحزن أشد الحزن من مطاردة الطلبة القادمين من اليمن، لأنهم كانوا مثل بسطاء الحال من المصريين يستقلون المواصلات العامة المزدحمة كالأتوبيسات والقطارات، بما فيها من اختناق، يفقد فيه المخبر «المسكين» كثيراً من الاحترام.يروي سيف حكاياتٍ عن أدباء عرب، فيحكي عن نزار قباني وأنسي الحاج. وحين تصل الحكاية إلى باريس يُحدثنا عن صمويل شمعون، ورشيد صباغي، وعلي بن عاشور. ويروي عن آخرين من دون أن يذكر أسماءهم، من بينهم مثقف عراقي مأزوم، كان يظن أن «المرأة إذا انحطَّت صارت عاهرةً، والرجل إذا انحطّ صار مُخبراً»، لكن الكاتب وضع تعديلاً طفيفاً ملائماً للحظتنا الراهنة، يقول إن «الرجل إذا انحطَّ صار، في هذه الأيام، طائفياً».دواوين
سيف الرحبي صوت شعري عربي متميز، من دواوينه: «مُدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور»، و«رأس المسافر»، و«الجبل الأخضر»، و«نورسة الجنوب»، و«أجراس القطيعة»... كذلك ترجم بعض قصائده إلى لغات عدة.