"نحن في مرحلة ضبط الإنفاق وزيادة الإيرادات وإعادة هيكلة وتقييم الأنشطة الاقتصادية، ولن نتراجع عن خطط الإصلاح الاقتصادي، سواء انخفضت أسعار النفط أم ارتفعت".

الفقرة أعلاه، (نصاً أو معنى)، باتت ديباجة سنوية لبيانات وزارة المالية، بالتزامن مع موعد صدور الميزانية العامة للدولة، على مدى سنوات، غير أن هذه الديباجة لم تعد تمثل أكثر من تعهدات خالية من المسؤولية والالتزام، ففي كل مرة تصدر ميزانية عامة جديدة تعيد إلى الأذهان نفس الأنماط المتكررة في انفلات الإنفاق وضعف الإيرادات، لاسيما غير النفطية، وقلة كفاءة الأنشطة، وانحراف خطط الاصلاح الاقتصادي، رغم الدروس التي قدمتها محنة تراجع أسعار النفط، منذ منتصف عام 2014، حتى انتعشت الأسعار مجددا بدعم من اتفاق المنتجين على خفض مؤقت للإنتاج.

Ad

وبغض النظر عن العجز المقدر في ميزانية عام 2018-2019، حقيقياً كان أو دفترياً، فإنه يظل مبنيا على فرضية عالية المخاطر، تستند بشكل أساسي إلى اسعار النفط وتقلباته في الأسواق العالمية وقيمته الاقتصادية ومستقبله كسلعة، وأثر ذلك كله على الايرادات العامة، مما يعني ان الميزانية الجديدة، كسابقاتها، محدودة في تلبيتها لأهداف الاقتصاد الكويتي ومعالجة اختلالاته.

دروس

وكما قيل: "ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار!"... فإن دروس انخفاض اسعار النفط، لثلاث سنوات سابقة، على ميزانية دولة تعتمد عليه بشكل أساسي كثيرة، أبسطها ضرورة التحول إلى ضبط الإنفاق الفعلي الذي يعتبر في الميزانية الجديدة ثاني أعلى إنفاق عام خلال 8 سنوات، الى جانب حلحلة ما يستنزف الميزانية سنويا، عبر تنفيذ ما يتم التعهد به حكوميا، بخلق سوق عمل يخفف الضغط على بند المرتبات وما في حكمها، الذي يستهلك في الميزانية الجديدة ما نسبته 56 في المئة من اجمالي المصروفات، أو اعادة تقييم بنود الإنفاق الاستثماري لتصب في اتجاه تمويل الميزانية بإيرادات جديدة، أو توفير فرص عمل في السوق.

رسوب الإدارة

وإذا كانت الدروس السابقة التي قدمتها سنوات الانخفاض النفطي غير واضحة، فإن هناك درساً -على ما يبدو- يمثل رسوبا للادارة العامة ولقدرتها على تغيير الاوضاع المالية في أي ميزانية مقبلة، إذ اعتبرت وزارة المالية في بيانها الصادر هذا الأسبوع، أن "نمو الإیرادات غیر النفطیة، والتي تشكل 11 في المئة من إیرادات هذه المیزانیة إلى 1.77 ملیار دینار یعكس وتیرة الإصلاحات المالیة والاقتصادیة"، وهو احتفاء غريب وغير مفهوم، يرى أن نسبة الـ 11 في المئة الضئيلة تعبر عن نتيجة إيجابية لإصلاح ما، ويدل على محدودية أهداف الاصلاح الاقتصادي وفهم ضرورته، لدولة تعتمد نظرياً في 89 في المئة من دخلها على النفط والغاز، بينما من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة مع نمو ايرادات بيع النفط وفق الاسعار الحالية التي تتجاوز سعر الأساس بـ 16 دولاراً للبرميل.

بل إن الخطط الخاصة بالميزانية لـ3 سنوات مقبلة تتحدث عن ثبات عند مستوى 20 مليار دينار لعامين، ثم الصعود الى 21 ملياراً في العام الثالث، وسط نمو مطرد في سعر الأساس عند 50 دولارا للبرميل ليعادل الـ71 دولاراً للبرميل في السنة الحالية على الأقل.

الأسوأ من مسألة الإشادة بضحالة الايرادات غير النفطية هو العجز عن تدارك طغيان نسبة الإنفاق الاستهلاكي في الميزانية، بواقع 82 في المئة مقابل 18 في المئة لمصلحة الانفاق الاستثماري، الذي يفترض أن يتم رفع كفاءته هو الآخر؛ لتكون جدواه الاقتصادية بقدر قيمته، فضلا عن التعامل مع "الاستهلاكي"، خصوصا فيما يتعلق ببنود الدعومات، من خلال عقلية محاسبة كإدارات الشركات، وليس بعقلية اقتصاد الدولة، فبدلا من خلق بدائل لأكثر ما يستنزف هذا البند تحديدا، وهو كلفة الطاقة الكهربائية من خلال تكنولوجية تتعلق بالطاقة الشمسية وغيرها، يتم التفكير في تقليص الدعومات من خلال إجراءات يصعب تطبيقها في ظل طبيعة الادارة الحكومية، فضلا عن جدوى هذا التقليص على الاقتصاد فعليا.

الإنفاق يتجاوز الميزانية

أما الأكثر سوءا على الاطلاق فهو ان الانفاق الحقيقي لا يزال اعلى من المقدر في الميزانية، لأن ثمة مصروفات باتت متكررة وشبه ملزمة للدولة، كتغطية النفقات العسكرية، وحصص من رساميل شركات حكومية أو هيئات محلية او مؤسسات دولية تساهم فيها الكويت ومؤسسة الرعاية السكنية وبنك الائتمان وصندوق الأسرة، فضلاً عن تغطية العجز الاكتواري الخاص بالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وهذه كلها مصروفات لا تظهر في أبواب الميزانية العامة للدولة، لأنها تندرج ضمن السحب او الاقتراض من الاحتياطي العام، مما يجعل مصروفات ميزانية الكويت خلال السنوات الأخيرة أكبر من حجمها المعلن، بمتوسط يصل إلى 30 في المئة، وبالتالي فإن العجز في الميزانية سنويا سيتصاعد تباعا مع النسبة السابقة، خصوصا أن معظم بنود الصرف خارج الميزانية ليست قصيرة الأمد، أو تدفع لمرة واحدة، بل إن بعضها مستمر ومتزايد، كالمصروفات العسكرية.

خطة «المالية»

اللافت أن وزارة المالية التي اعلنت عن الميزانية الجديدة هي ذاتها التي وضعت قواعد العام الماضي لما أسمته "ميزانية تنموية ذات طابع إنتاجي"، ليتم من خلالها إعادة هيكلة أوجه الانفاق لمصلحة مشاريع تنموية حقيقية تخدم احتياجات الاقتصاد من حيث الايرادات غير النفطية، او خلق سوق عمل غير ضاغط على الانفاق العام وغيرهما، إلا ان النتائج الفعلية لم تحقق خطة الوزارة.

إن التعامل مع ارتفاع اسعار النفط كفرصة إيجابية سيكون ناجحاً اذا اقترن مع جهود الإصلاح المالي والاقتصادي الحقيقي، أما اعتبارها فرصة لشراء الوقت فسيسرع عملية استهلاك الأصول والاحتياطات خلال فترة وجيزة، وسيكرر خطيئة 15 عاما من الفوائض المليارية التي لم تنعكس على أداء الاقتصاد في أول سنة انخفضت فيها اسعار النفط، فسجلت فيها الكويت عجوزات مالية سريعة... فكانت عبرة لنا، ولكن بلا اعتبار.