الجيش في إسرائيل مؤسسة ذات تأثير كبير في الحياة السياسية، كما هي الحال في دول كثيرة، كما أنه مؤسسة اقتصادية كذلك!ويقول د. محمد أحمد حسين في بحثه المشار إليه في مقال سابق "رفض التجنيد" في إسرائيل، إن المؤسسة العسكرية "تشرف على مجموعة من شركات الصناعات العسكرية بشكل عام، والمدنية بشكل خاص، يتزود منها الجيش ويبيع منها لجيوش رسمية وغير رسمية في أنحاء العالم، فالجيش على هذا النحو يوفر فرص عمل، مما يزيد من قوة المستفيدين منه اقتصادياً".
وينبغي أن نتساءل هنا: لماذا نجحت إسرائيل في تطوير التكنولوجيا العسكرية؟ وكيف استفادت عسكرياً وتجارياً من تقدمها التقني والتعليمي وعلاقاتها الدولية؟التبرير السائد في إعلامنا وثقافتنا السياسية روابط إسرائيل اليهودية والأميركية والمالية وغيرها، ولكنْ للدول العربية أموال هائلة وعلاقات ممتدة في المشرق والمغرب، غير أن "أهداف الجانب العربي"، غير واضحة وغير واقعية، وغير مجمع عليها!نقاط القوة الإسرائيلية ليست اقتصادية أو تقنية في هذا المجال فحسب، بل نراها في علاقات الجيش الإسرائيلي بالسياسة كذلك، ويلاحظ الباحث مثلا أن انتقال ضباط كبار في الجيش إلى مناصب في الحكومة أداة رئيسة من أجل هيمنة وجهة النظر العسكرية في أوساط المستوى المدني الرفيع للغاية من مقرري السياسة، فأصبح الجيش مخزناً للقيادة السياسية بعدما بات كبار قادة الجيش يشاركون مشاركة كاملة في اتخاذ القرارات، بما في ذلك مجالات الحياة غير العسكرية، وكانت بداية هذا التداخل سيطرة" ديفيد بن غوريون (1886-1973) بوصفه وزيرا للدفاع ورئيساً للحكومة. ويقول د. حسين إن إسرائيل "من الدولة القليلة التي يشارك في اجتماعاتها الوزارية أبرز قادة الجيش بحضور دائم لرئيس الأركان وحضور مكثف لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ورئيس المخابرات العامة، الذين يتركون بصمات واضحة على القرار السياسي".كما يجري تبادل مصالح بين العسكريين والمدنيين، "وكثيراً ما يحدث أن يفرض الجنرالات رأيهم على الحكومة، وتجري ترقية كبار الضباط من ناحية أخرى بالتشاور مع المستوى السياسي، لذلك يبدي الضباط الذين يرقون تفهماً وتعاوناً مع السياسيين، وكثيراً ما يلتحق العديد من هؤلاء الضباط، بعد تسريحهم أو استقالتهم بأحزاب السياسيين الذين ساعدوهم في الترقي والتقدم في الجيش لكل هذا باتت إحدى أطروحات الجدل السياسي في إسرائيل أن الجنرالات ورجال الأمن يتدخلون أكثر من اللازم في السياسة الإسرائيلية". وقد نتج عن هذا الدور، يقول الباحث "جوني منصور" أن ارتبطت معظم خطوات الحياة اليومية بالجيش ارتباطاً وثيقاً، وهكذا يمكن القول إن "أسس حياة المجتمع الإسرائيلي ليس مبنية على قواعد مدنية صرفة بل على قواعد العسكرية"، وهكذا ظهرت قاعدة أو عرف "أن تكون مواطنا جيدا يعني أن تخدم في الجيش الإسرائيلي".ومن هنا فإن ظاهرة رفض الخدمة العسكرية تحمل دلالات سياسية واجتماعية ووطنية خاصة، وربما كانت تبريراً للإقصاء والتهميش. ارتبطت بدايات ظاهرة رفض الخدمة العسكرية ورفض تنفيذ الأوامر العسكرية في أثناء الخدمة بأشخاص ينتمون إلى اليسار الإسرائيلي، ثم انتقلت إلى المنتمين إلى اليمين كذلك، وتدرس ورقة د. حسين الحالية الظاهرة في أوساط اليسار، وستدرس ورقته القادمة اليمين. ظهر رفض تنفيذ الأوامر خلال العمليات العسكرية عام 1948، أثناء العمليات التي كانت تشنها "عصابات هاغانا"، حيث رفض بعض أفرادها الأوامر الصادرة إليهم بالمشاركة في طرد الفلسطينيين من الجليل في اتجاه الأردن وسورية، وجاءت الحالة الأولى لرفض الخدمة العسكرية بعد إقامة إسرائيل بأيام، ونيران معارك حرب عام 1948 مازالت مشتعلة، حينما قُدم أحد المقاتلين إلى المحكمة بتهمة التهرب من الخدمة لأسباب إنسانية، لأنه كان عضواً في الفرع الإسرائيلي "للمنظمة الدولية لرافضي الحرب" والتي تؤمن بنبذ الحروب ودعم السلم، "فحكم عليه آنذاك بالسجن ثلاثة أيام"، ولو كان هذا التهرب أو الامتناع قد حدث في أي جيش عربي لحكم عليه بالإعدام أو ثلاثين سنة سجنا! وجرت في الفترة نفسها محاكمة اثنين رفضا تسلم أمر التجنيد لأنه صادر من مؤسسة صهيونية، وقد كان الاثنان يعارضان الحرب بين اليهود والعرب، وقد رفض أحدهما الخدمة بسبب إيمانه بنبذ الحرب وتعزيز السلام، ولإيمانه بـ"أن العرب أبناء عمومته"، فأيد علنا ضم أرض إسرائيل، إلى المملكة الأردنية، فحكم عليه بغرامة بالسجن مع إيقاف التنفيذ وبأداء الخدمة في مجال غير عسكري، وكانت الحالة الأبرز ضمن معارك حرب عام 1948، حالة جندي سلاح المدفعية "يوسف أكسن" الذي رفض تنفيذ الأمر الصادر إليه من قائده بقصف السفينة "التلنا" بالمدفعية في يونيو من عام 1948، بعدما رفض عدة طيارين الأوامر بقصفها جواً، ولم تكن السفينة عربية بالطبع أو فلسطينية، بل كانت تحمل على متنها مهاجرين يهوداً وأسلحة وعتادا عسكرياً ومعدات طبية تابعة لمنظمة "ايتسيل" الصهيونية، ونتيجة لخلافات بين منظمة "ايتسيل" ومنظمة "هاغانا" قرر بعض القادة الصهاينة، وعلى رأسهم "بن غوريون" قصف السفينة وإغراقها، ظناً أنها تمهد الأرض لانقلاب عسكري ضد "هاغانا"، ووقعت اشتبكات بين المنظمتين أسفرت عن قتل ستة عشر فرداً من "ايتسل" وثلاثة أفراد من "هاغانا" وإصابة العشرات. وفي عام 1953 رفض "أمنون زخروني" أحد أعضاء "رابطة رافضي الحرب لأسباب ضميرية في فلسطين" التجنيد في الجيش الإسرائيلي، فتعرض لعقوبة السجن لمدة سبعة أشهر، ثم أضرب عن الطعام، فخُففت عقوبته وأمضى خدمته العسكرية في الدفاع المدني، من دون أن يحمل سلاحاً ومن دون أن يرتدي الزي العسكري.وينتقد الباحث الموقف الإسرائيلي من "مذبحة كفرقاسم"، حيث "جرى فيها تنفيذ أوامر غير إنسانية ضد فلسطينيين مدنيين عزل، وعلى الرغم من أنه لم تسجل خلالها حالات اعتراض على تنفيذ الأوامر فقد وصلت وقائع هذه المذبحة الى ساحات القضاء، فتمت محاكمة القادة الذين أصدروا الأوامر والجنود الذين نفذوها، ولكن الأحكام جاءت هزيلة ولا تتفق والجرم المشهود". مثلت حرب عام 1967، وما تبعها من نتائج وتداعيات، نقطة تحول في زيادة حالات الرفض، فقد رأى البعض أن السيطرة على هذه الأراضي والتحكم في مصير أصحابها جرم أخلاقي، من هنا طالب البعض بعدم تأدية الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة، وفي عام 1973 تعرضت مجموعة من الجنود لعقوبة السجن لأنهم رفضوا الخدمة العسكرية في سيناء، خصوصا أنهم كانوا شهودا على طرد ست عشرة أسرة مصرية، ومصادرة أراضيها لبناء مستوطنة بجوار مدينة العريش، وأرسل طلاب آخرون من المرحلة الثانوية في عام 1979 خطاباً إلى وزير الدفاع يعلنون فيه رفضهم الخدمة العسكرية بتوقيع "رافضي الاحتلال" كما كانت حرب لبنان الأولى في عام 1982 نقطة فارقة في تطور حالات الرفض، فقد رفض قائد وحدة في العمليات العسكرية بلبنان، الأمر الصادر إليه بنقل جنود وحدته لاقتحام بيروت الغربية، وذلك لاعتبارات إنسانية، وبسبب رفضه التضحية بحياة جنوده من ناحية، وخشية على حياة المدنيين من ناحية أخرى، وفي النهاية ترك مهام منصبه. شكلت الانتفاضه الفلسطينية الأولى عام 1987 زيادة حالات الرفض من قبل اليسار خصوصا أفراد الاحتياط، مع دخول الجيش في مواجهة مع الفلسطينيين المنتفضين، وارتكبت أفعالاً لا إنسانية، دفعت مئة وثمانين جندياً إلى التوقيع على خطاب يعترضون فيه على المشاركة في قمع الفلسطينيين، فتعرضوا للمحاكمات والعقوبات التأديبية، كما جمعت إحدى الحركات توقيعات ألفين وخمسمئة جندي يطالبون بعدم تأدية الخدمة العسكرية في الأراضي الفلسطينية.ويقول د. حسين، إنه "جاء في مبررات الرفض- سواء من العسكريين أو المدنيين المرشحين للالتحاق بالحياة العسكرية- الشعور بالخزي والخجل، فأشار بعضهم: "حتى لا أضطر يوما إلى النظر إلى أسفل أمام ابني ندما"، وتعلل آخرون بعدم تكرار أحداث النازي "آن الأوان لنا، وحانت الفرصة لنكون في الجانب الثاني من الحاجز"، وقال آخرون إنهم يعملون لمصلحة شعبهم، بحمايته من ممارسة القمع "أرفض ذلك لمصلحة المجتمع الذي أعيش فيه".وأضاف آخرون: "تزرع إسرائيل الآن في الأراضي المحتلة القمع والذل واليأس والموت، وسنحصد الإرهاب والإرهاب ومزيدا من الإرهاب".
مقالات
الجيش والسياسة... في إسرائيل
01-02-2018