«خلاويص»!
بذكاء كبير، ودهاء أكبر، ينتقي الممثل أحمد عيد موضوعات أفلامه، التي يطرح من خلالها ما يعني له من أفكار "سياسية"، وعقائدية، تجعل منه "مُعارضاً نائماً"، على غرار الخلايا النائمة، من دون أن يُضبط متلبساً، أو يتعرّض لملاحقة من أي نوع، وهو ما فعله في أفلامه: "ليلة سقوط بغداد، وأنا مش معاهم، ورامي الاعتصامي، وحظ سعيد، وياباني أصلي"، وفيلمه الجديد "خلاويص"، الذي يمكن القول إنه يُنصبه معارض السينما المصرية الأول بامتياز! في "خلاويص"، الذي شارك في كتابته لؤي السيد وفيصل عبد الصمد، وأخرجه خالد الحلفاوي، يصل أحمد عيد إلى قمة النضج السياسي، والأدائي، والإنساني، حيث يُجسد دور الأب البسيط "حسن"، الذي يعمل سائقاً ليعول والده الكهل (محمد ريحان) وأمه الكادحة (أحلام الجريتلي) وابنه الوحيد "علي" (الطفل آدم وهدان)، بعد وفاة زوجته التي رفض الزواج بعدها إخلاصاً لها. لكنه يُفاجأ بالقبض على ابنه، الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، تنفيذاً لحكم صادر من المحكمة بسجنه مدة 15 عاماً، بتهمة التجمهر، ومقاومة السلطات، وحيازة سلاح من دون ترخيص!
الفيلم مأخوذ عن واقعة حقيقية شهدتها المحاكم المصرية، وشغلت الرأي العام، أتهم فيها طفل في الرابعة من عمره بسرقة مواد محجرية، ومقاومة سلطات، وأسفرت محاكمة عاجلة عن الحكم عليه بالحبس لمدة ثلاثة أشهر مع الشغل والنفاذ، قبل أن تُصدر محكمة استئناف مدينة نصر حكماً ببراءته. لكن كاتبي السيناريو التقطا خيوط القضية لينسجا منها "كوميديا سوداء"، اعتمدا فيها على الكثير من الوقائع الحقيقية، على رأسها المكان (قسم شرطة أول مدينة نصر)، وجعلا منها فرصة لمحاكمة عصر بأكمله، تفشت فيه البيروقراطية الحكومية العمياء، وعاثت فيه الشرطة فساداً في البلاد، بعدما اعتمد كاتبا السيناريو على تصريحات صحافية لمحامي الطفل اتهم فيها لواء شرطة بالوقوف وراء اتهام الطفل، نكاية في والده، الذي رفض منحه أموالاً على سبيل الإتاوات، حيث جسد الممثل أحمد فؤاد سليم شخصية المسؤول الأمني "توفيق". إلا أن السيناريو أضفى على القضية بعداً سياسياً بالقول إن المسؤول لجأ إلى هذا لإلهاء الرأي العام، بناء على تعليمات سيادية، وهو ما جعل الفيلم يحاكي ما رأيناه من قبل في فيلم "الهروب" من بطولة أحمد زكي وإخرج عاطف الطيب!نجح المخرج خالد الحلفاوي في تقديم فيلم مثير، لاهث الإيقاع، باستثناء بعض المشاهد الزائدة (مونتاج عمرو عاصم)، كما اعتمد على اللقطات القريبة الخانقة (تصوير علي عادل)، ووظف الديكور (هند حيدر) والموسيقى (محمد مدحت)، بالإضافة إلى أغنية "متغربين" للمطرب محمد شاهين، كلمات هاني رجب وألحان سامر أبو طالب وتوزيع محمد هارون، ليؤكد رسالة الفيلم، الذي فضح الإعلام المنحاز إلى النظام، والذي يتبنى، بجهل، سقطاته المُخزية، ممثلاً في المذيع "أمجد" (طارق عبد العزيز)، فيما ثمن جهود المحامية "سلمى" (آيتن عامر)، التي انبرت للدفاع عن الأب "حسن" وطفله المظلوم "علي"، والقضاء (ماهر سليم) الذي ينحاز إلى الحق وحده.في المقابل، بدا وكأن كاتبي السيناريو تحسبا لموقف الرقابة، والمشاكل التي يمكن أن تُطارد الفيلم، فما كان منهما سوى أن نسجا الشخصيات بتوازن صارم جمعا من خلاله بين الشخصية ونقيضها، فالمسؤول الأمني المخضرم "توفيق" غليظ القلب، الذي ينحرف بالسلطة، يُقابله الجيل الجديد ممثلاً في الضابط الشاب "طارق" (محمد حاتم)، الذي يرفض الممارسات الأمنية السلبية لخاله، ويتشبث بتبرئة الأب الضحية، وابنه، ويُسارع بجمع المبلغ الذي يساعده في هجرته غير الشرعية. وعلى الوتيرة "السيمترية" نفسها يُصر المقدم "حسين" (محمد حسني) على تطبيق القانون بينما يؤمن رئيسه "العميد" (سامي مغاوري) بروح القانون، وتنحو مشاهد السجن، خصوصاً شخصية "طلبة" (محسن منصور) بالمبالغة (الانقلاب غير المبرر وتعاطفه المفاجئ مع الأب ومشهد الصلاة).اتسم الحوار بطرافة كبيرة، وخفة ظل تُحسب للكاتبين، والمخرج (شخصية "ناصر" (حسن العدل)، الضرير المتهم بتزوير جوازات السفر وتأشيرات السفر)، وجاء اختيار عنوان "خلاويص"، رغم صلته القوية بالمضمون الدرامي للفيلم، لينجح في إيهام الرقابة بأن الفيلم تافه، وساذج، ومن ثم أفلت من مقصلتها، على غير الحقيقة التي كشفت عنها المواقف التي اتسمت بسخرية لاذعة، والأحداث التي جاءت ساخنة بدرجة كبيرة، مع تحفظنا على النهاية السعيدة، التي يتراجع فيها البطل، وابنه، عن الهجرة من مصر، بحجة أن المسؤول الأمني المنحرف أُقيل من منصبه، وهتاف البطل: "الله يخرب بيتك يا توفيق"، وكأن الفساد، والانحراف بالسلطة، مشكلة شخصية، وليست أزمة نظام بأكمله!