لكل عمل في لغته الأصلية بهاؤه الخاص، وعملية نقل العمل من لغته إلى لغة أخرى يصاحبها غالبا نقل التفاصيل اللغوية والصور المكانية، في محاولة قد لا تكون ناجحة دائما من بيئتها إلى بيئة أخرى. تلك هي المعضلة الرئيسة التي يواجهها المترجم، مهما بلغ من مهارة لغوية في اللغتين. بالتأكيد في الأعمال الشعرية تبدو المسألة أصعب منها في السرد. أغلب المترجمين يُطلقون على عمل الترجمة التعريب، في محاولة للابتعاد عن النص الأصلي، والذي يكون غارقا في الخصوصية الثقافية للكاتب. كما يفعل جبرا إبراهيم جبر، رغم أنني أراه مترجما في الصخب والعنف مثلا، فيما أرى إحسان عباس معربا في موبي ديك، والأول أقرب للنص من الثاني.أمامي الآن ثلاث نسخ من رواية "الحب في زمن الكوليرا" لغارسيا ماركيز أو غارثيا ماركيز، وفق بعض الترجمات: النسخة الأولى هي ترجمة إنكليزية للعمل عن الإسبانية لإديث جروسمان، والتي لا يظهر اسمها على الغلاف الخارجي، والنسخة الثانية ترجمة عربية لصالح علماني، والثالثة أيضا عربية لمترجم لا أعرفه، هو أحمد مجدي منجود.
سنبدأ من الاقتباس الذي اختاره ماركيز للموسيقي الكولومبي لياندرو دياث في مقدمة الرواية، والذي جاء في الترجمة الإنكليزية على النحو التالي: The words I am about to express: They now have their own crowned goddess.هذا الاقتباس تمت ترجمته في نسخة صالح علماني كالآتي: "قدما تمضي هذه الأماكن: إذ صار لها ربة متوجة". فيما ترجمها منجود بطريقة غريبة: "تلك هي الأماكن الخالدة على مر السنين والأعوام: فهي في النهاية صارت زينة لكل من يرى". في النص الإسباني الاقتباس كالتالي: "En Adelanto van estos lugares: ya tienen su diosa coronada".بالتأكيد الترجمة الدقيقة هنا للمترجم صالح علماني، رغم أن د. روبين بيلانو، أستاذ الأدب الإسباني في جامعة كاليفورنيا والباحث في أدب ماركيز، يعيد اقتباس جروسمان، ولا ينكر عليها تحوير المعنى في الشطر الأول عن النقل الحرفي للمفردات، كما فعل صالح علماني. المشكلة في ترجمة أحمد منجود، وكأنها كتابة أخرى، لا علاقة لها بالنص الأصلي، ولا قريبة منه. والأهم في هذا الاقتباس، هو الشطر الثاني، وتحديدا في كلمتي "ربّة متوجة crowned godess". أعاد ماركيز هذه الصفة كما وردت في الاقتباس خمس مرات أثناء السرد كصفة لـ"فيرمينا داثا". الحقيقة، أن نص علماني تطابق تماما مع النص الإنكليزي، فيما يدل على دقة الترجمتين عن الأصل الإسباني. النص الوحيد الشاذ والغريب هو نص المترجم منجود، والذي يبدو أنه نص آخر لا علاقة لماركيز به. سأكتفي في الفقرة الافتتاحية للرواية دون الحاجة لإعادة النص الإنكليزي، لتطابقه تماما مع نص صالح علماني والنص الأصلي. جاء في ترجمة علماني وجروسمان: "لا مناص: فرائحة اللوز المر كانت تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية، ذلك ما أدركه د. خوفينال أوربينو منذ دخوله البيت الذي مازال غارقا في الظلام، إذ حضر على عجل للاهتمام بحالة لم تعد مستعجلة بالنسبة له منذ سنوات".أما ترجمة أحمد منجود في مستهل الرواية، فهي كتابة رواية أخرى من وحي ماركيز: "كان أمرا لا مفر منه: شذى ثمار اللوز الفواحة مرارة وعطرا، التي دوما ما تثير في عقله كوامن ذكريات الحب والعشق حين تتضارب أهدافها، ويغلبها التناقض المرير... وها هو ذا يصل إليه في عجلة وسرعة، كي يشرف على ذلك النوع من القضايا الذي لم يعد طارئا له، أو بحاجة للسرعة واللهوجة". وهكذا، لولا ترجمة علماني، لشتمنا ماركيز ومَن ادَّعى أن ماركيز يستحق القراءة.
توابل - مزاج
المترجم «الجزار»
04-02-2018