الذعر من الحياة لا الموت
معظم الروايات والقصص التي تنحو منحى غرائبياً، في العربية وفي اللغات الأخرى، تكون وليدة المخيلة الممروضة، أو المغامرة، أو النقدية الساخرة، أو حتى الفنية السوريالية. وهي مخيلة متعافية على الأغلب، أو على الأقل هادفة (الأمر يذكرنا بقصص السوري زكريا تامر، أو العراقي جليل القيسي). لكن ثمة منحى غرائبيا يخرج كالقيح من الدمّلة، أو النزف من الجرح. يخرج من مخيلة لا تعرف لها هدفاً نقدياً أو إصلاحياً، أو حتى فنياً. لا تعرف إلا رغبة أن تعوي كالذئب، أو تُطلق صرختها المكبوتة (لعلنا نتذكر "صرخة" الرسام النرويجي Munch، أو رواية The Master and Margarita للروسي Bulgakov).الدراسات الغربية تطلق على هذه الغرائبية السوداء اسم The Grotesque. الغرائبي لا يُذعر من الموت، بل ينفرد بالذعر من الحياة. والغرائبي، حين تبخل الحياة بالحوار الخارجي الطبيعي معه، ينصرف إلى الحوار الداخلي مع النفس الذي لا يخلو من تأثير خانق. وهو يستريح للانتساب إلى هذا العالم اللامرئي، عالم الموتى أو الغائبين. قد نضحك مع الغرائبي مما يبدو لنا كوميدياً، لكننا لا نخفي ارتيابنا من مضامينه السوداء. نُفتن بجاذبيته، في حين لا نخفي إحساسنا بمعاني التهديد التي ينطوي عليه.
ليس غريباً أن ينفرد القاص والروائي العراقي بهذا الضرب من أساليب التعبير، في العقد الأخير خاصة. فتجربته لم تعد تجربة حياة اجتماعية، سياسية، فكرية أو وجودية تتسم بالاعتيادية، وخاصة إذا ما انتسب لمرحلة الموت التي أملتها سلطة الديكتاتور والحروب المتواصلة على مدى ثلث قرن، وسلطة أحزاب الإسلام السياسي التي تميَّزت، إلى جانب الموت، بالفساد، حتى هذه اللحظة. أبناء المرحلة دخلوا نفق الذعر زمناً لم يعد يبدو لهم منتهياً. دخلوا الحزب، المعارضة، الانتفاضة، الإعدامات بالجملة، اقتيدوا إلى جبهات القتال، إلى المقابر الجماعية، إلى المجاعة، إلى العبوات الناسفة، والمهانة اليومية. حتى الدين لم يعد حضناً رؤوماً. أحسوا أنهم لا يُقادون فقط، بل يقودون بدورهم. صاروا يُسهمون بإخلاء الحياة من أي معنى، عن إجبار أو طواعية. خبرة لا يملكها غير العراقي الذي عاشها.القراء اليوم يعجبون من هذا الفيض القصصي العراقي الذي لا يعتمد تجربة سوية. لقد قرأت عدداً من الروايات المدهشة، وكانت تُملي عليَّ معاييرها الجديدة، لأن الجحيم الأرضي الذي نعرفه، والجحيم السفلي الذي نجهله عراقيان بامتياز. رواية "الأشباح والوهق" لسليم جواد، من الجحيم السفلي الذي يستسلم كلياً للمخيلة. وكذلك رواية "خضر قدْ والعصر الزيتوني" لنصيف فلك، ورواية "فرنكشتاين في بغداد" لأحمد السبعاوي. "مسامرات جسر بزيبر" لشاكر الأنباري"، و"الجريمة، الفن وقاموس بغداد" لعلي بدر، يغترفان من بؤس الجحيم الأرضي. وهناك الكثير الذي لم يصلني. جميع هذه النصوص لا تخلو من ابتسامة سخرية ممرورة. ابتسامة تشفٍّ من المُثل التي ترددها العقائد والأديان والآمال السياسية.آخر ما قرأت من هذه السلسلة المفزعة المجموعة القصصية "صانع الحلوى" لأزهر جرجيس (دار المتوسط 2017). لكن قصصه، بفعل ميلها للسخرية، التي تبدو ضاحكة في أحيان كثيرة، ولا تكتفي بالابتسام، تكاد تجعل من تراجيديا الجحيم الأرضي كوميديا، الأمر الذي يجعلها أقرب إلى الحكاية الصحافية، التي تطمع أن تخرج عن مدار قارئ الأدب (رواية وقصص) إلى القارئ العام. لذلك، تبدو قصته أو حكايته قصيرة، مُتسارعة وتُقرأ بدقائق، وكأنها بذلك تحفّزه للقفز إلى القصة التي تليها. بطله دائم الخروج من الواقع إلى الكابوس، أو من الكابوس إلى الواقع، وكثيراً ما يتطابقان. وتتمتع لغته بخفة دم لا تعكرها الصنعة إلا فيما ندر.أزهر جرجيس يعيش في المنفى النرويجي، ينتسب إلى الجيل الذي خبر جحيم صدام حسين، وجحيم أحزاب الإسلام السياسي التي ورثته. وبفضل منفاه، الذي لا يبخل عليه، هو أيضاً، بكوابيس العزلة ومشاعر الاغتراب، يبدو ميالاً إلى المباشرة في هجائياته. بالرغم من أن الجحيم الأرضي لم يتوقف عن تغذية المقيمين داخل العراق بالجرأة في هجائياتهم (الشاعر موفق محمد خير مثال).