خيال يفوق الاحتمال
![د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب](https://www.aljarida.com/uploads/authors/991_1667658654.jpg)
في هذه اللحظة تخيلت هذه السيدة "هناك"، في مزرعة ما، مدينة ما، بيت صغير محشور بين بيوت كثيرة ما. ترى كيف كانت اللحظات الأخيرة قبل مغادرتها لوطنها؟ كيف ودعت أهلها، ما كانت آخر كلماتها لزوجها؟ كيف قبّلت أبناءها القبلات الأخيرة التي لن تتكرر لربما إلى ما بعد سنوات؟ الخيال يفوق الاحتمال. بلدنا الصغير مليء بالسيدات الفلبينيات، في بيوتنا، في متاجرنا، في شركاتنا، في حمامات مولاتنا الفارهة، تتكرر هياكلهن الصغيرة وشعورهن الفاحمة، تتردد لكنتهن التي أصبحت مألوفة ولربما مفهومة للكثيرين منا. إلا أننا ومع هذا التكرار المستمر لوجودهن "الجانبي"، حيث يحيين على طرف حيواتنا الفارهة، نعاملهن كأنهن لعب بلاستيكية، كأنهن نسخ مكررة من ذات الكائن، وننسى أن خلف كل جسد رقيق منهك ووجه مستدير مشدود العينين، والتي نراها كلها متشابهة لربما بعين عنصرياتنا، هناك قصص طويلة ومختلفة ومعقدة التفاصيل. كل سيدة من هؤلاء السيدات كانت ذات يوم طفلة، كبرت في الغالب في بيت فقير. كل واحدة منهن كانت تذهب للمدرسة محملة بأحلامها وآمالها التي ستتحطم لاحقاً على عتبات الفقر والحاجة. ذات زمن كان لكل منهن زوج في الغالب ستخسره ويخسرها بسبب سفرها البارد الطويل، لكل واحدة منهن أطفال سيتوقفون عن مناداتها بماما، ماما الآن هي الجدة أو الخالة أو العمة. كل سيدة من هؤلاء ستخسر كل شيء عندما تغادر: الزوج والأهل والأصدقاء والأحلام والآمال والعمر والأبناء، ثمن باهظ من أجل هدف غائم. استأذنتني: "هل لي أن أضمك سيدتي؟" فسارعت أنا أسبقها بضمها، لأفلت منها سريعاً راكضة منها ومن قصتها. لا أتذكر أنني سألتها عن اسمها، فقط سارعت الى سيارتي وأنا أبتلع هواءً انحشر في بلعومي، وكعادتي، أخذني خيالي لقصة طويلة. ماذا لو أن الدنيا، بضربة حظ جينية، أبدلت أماكننا فكنت أنا هي وهي أنا؟ كيف كنت سأغادر بلدي للعمل خارجه؟ كيف ستكون القبلة الأخيرة أطبعها على يد والدي وخدّ أمي؟ ماذا كنت لأقول لزوجي؟ كيف كنت لأُفهم أبنائي أنني سأغادرهم، ليس لأيام أو أسابيع أو شهور، بل لسنوات، سأربي صغاراً غيرهم وأعمل في بلد غير بلدهم وأتكلم بحديث غير حديثهم، هل كانوا ليغفروا لي؟ كنت سأبكي بكل تأكيد، لكنني لربما كنت لأبكي فراق زوجي أكثر من أبنائي. داهمتني الضحكات، تذكرت كيف يتهمني أولادي دوماً بأنني أضعهم في موقع متأخر بعد والدهم وكيف أن اتهامهم هذا هو صحيح في الواقع. لكن ماذا كان سيحدث لو أتاني خبر زواج زوجي بعد أن فرقتنا السنوات؟ لا، لن يحدث، هو رجل صعب التأقلم، لا يستطيع الاعتياد على الغرباء بسهولة. هل كانت صغيرتي ياسمين ستنساني؟ بالتأكيد ستنسى شكلي، هل كانت لتعتبرني سُلطة في حياتها؟ أنا لست سلطة الآن، كيف يمكن أن أكون كذلك وأنا بعيدة؟ داهمت نفسي وأنا أضحك بصوت عال. اكتشفت أنني ألّفت قصة وعشتها مسافة الثلاثين دقيقة من السالمية لبيتي. توقف الخيال فور وصولي حيث عدت سريعاً لحياتي آمنة، وتركت السيدة الرقيقة لحياة معقدة مهددة، ذاك قدرها وهذا قدري.ليس في هذه الحياة عدل كثير، العدل عسير على التحقق، ما هو سهل التحقيق هي الرحمة، فإذا ما كنا لا نستطيع أن نقدم العدالة ونغير الأقدار، فلنقدم الرحمة ونغير وجه الألم. سؤال، لمسة يد، ابتسامة حقيقية، لربما تذكر المغتربين المحروقة قلوبهم بالابتسامات البعيدة والضحكات الماضية والدفء الذي كان.