الرياضة في مواجهة العنصرية
وقف ذلك الرجل الفارع الطول، سنة 1995 ، منتبها وقلقا في ذات الوقت، تلك كانت لحظة حاسمة في بناء الدولة، إلا أنه كان مدركاً لقيمة اللحظة التاريخية، كعادته. قضى 27 سنة في السجن ليخرج منه ويصبح أول رئيس أسود لدولة نظام "أبارثايد" العنصري. ربما يعود إيمانه بقوة الرياضة في تفكيك جزء من المعادلة العنصرية، كونه رياضياً مدركاً ما لا يدركه كثير من السياسيين، الذين يرون في الرياضة ملحقاً لأدوات سياسية يستخدمونها في حيثيات الصراع، أو حتى المثقفين الذين لا يتعاملون بجدية مع الدور الذي تلعبه الرياضة في تجميع الناس وتوحيدهم.نلسون مانديللا، أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، والذي توفي سنة 2013 عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، تمكن من إيجاد إبداعات تساعد على نقل المجتمع من حالة عنصرية مترهلة إلى حالة أخرى أكثر أملاً، لم يقض على العنصرية بالتأكيد، لكنه جعل من جنوب إفريقيا بلداً لا يحكمه "أبارثايد"، وفتح باب الأمل في إنهاء العنصرية بعد أن كان موصداً بأقفال ثقيلة. استضافت جوهانسبرغ سنة 1995 بطولة العالم للرجبي، اللعبة الأولى هناك. كان فريق "سبرنغبوكس"، الفريق القومي لجنوب إفريقيا، مثالاً للانقسام العرقي، فلا يوجد فيه إلا لاعب واحد من غير البيض، وكان الفريق رمزاً يكرهه السود، وهم غالبية المواطنين المهمشين. عندما بدأت البطولة، كان مانديللا يدرك حساسية الموقف، فالجمهور أغلبه من البيض الذين يشعرون بفقدهم امتيازاتهم، ومازالوا يحملون السلاح، وفي ذات الوقت كان السود على أهبة الانطلاق بمظاهرات ضد المباراة، بينما كان هو يحسب كيف يحول تلك اللحظة إلى فعل ضد العنصرية. جاءت اللحظة المناسبة بمباراة مع نيوزيلندا، أحد أقوى فرق العالم، كانت الأنفاس محتبسة، كيف ستتجاوز البلاد هذا الاختبار، وأمام جمهور يزيد على 65 ألفاً، أغلبيته الساحقة من البيض، الكارهين للتحول عن النظام العنصري، فاجأهم وهو في الملعب مرتدياً قميص فريق "سبرنغبوكس"، محيياً جماهير البيض، وللحظات ساد الوجوم والصمت في الملعب، وبدون مقدمات، صاروا يهتفون باسم "نلسون" بصورة غير مسبوقة. فازت جنوب إفريقيا حينها، واحتفل أهلها بيضاً وسوداً بذلك الانتصار، وخرجوا من عنق الزجاجة العتيق. يصف جاي بسبي تلك اللحظة "لم يكن مانديللا قد نجح في الامتحان ولكنه أعاد كتابته، وبذلك صنع أملاً جديداً لبلاده". أما مانديللا فيقول معلقاً: "للرياضة قوة بإمكانها تغيير العالم، قوة الإلهام، قوة توحيد الناس بطريقة تتفوق على أي وسيلة أخرى. فالرياضة تخاطب الشباب بلغة يفهمونها. تستطيع الرياضة أن تصنع الأمل في مواجهة البؤس. فالرياضة أقوى من الحكومة في تفكيك وكسر الحواجز العرقية والعنصرية".
في 2013 اعتمدت الأمم المتحدة 21 مارس يوماً عالمياً للقضاء على التمييز العنصري، والذي كان ذكرى مذبحة شاربفيل سنة 1960 ، التي قتلت فيها شرطة جنوب إفريقيا 69 متظاهراً سلمياً كانوا يحتجون على القوانين العنصرية حينذاك. لم تنته العنصرية بعد لا في جنوب إفريقيا ولا في العالم، والممارسات العنصرية مازالت يندى لها الجبين، فهي متجذرة في نفوس كثير من البشر، لكنها صارت تواجه تحديات ملحوظة، أبرزها في حلبة الرياضة، وصار على الناس أن يختاروا بين مجتمع مستقر ينمو ويتعايش فيه الناس من كل لون ودين ولغة وعرق، أو أن يكرروا ما عاشوا عليه، من شعور وهمي بالتفوق على غيرهم، وبالتالي حروب لا نهاية لها، الخيار واضح، والطريق كذلك، إما نفق مسدود أو ضوء محتمل في نهاية النفق.