وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، من خلال التكنولوجيا، أعادت تأهيل مشاعرنا، لجمت انفعالاتنا، وجعلتنا "نمزمز" أحزاننا على سعة من الفضاء الإلكتروني، بعد أن كانت أحزاننا تلتهمنا دفعة واحدة. كنا نظن سابقاً أننا إذا نفثنا نار أحزاننا، كالبراكين، مرة واحدة، ولم يتبقَّ سوى ذلك الجمر المدفون في جوفها تحت الدمار، كنا نظن أننا قادرون على التعامل مع ما تبقى من الجمر، وإخفائه بالمناديل، وكنا بهذا مخطئين، إذ غالباً ما كان ذلك الجمر المتبقي من نار أحزاننا ينمو داخلنا، كالخلايا السرطانية، ليصبح بركاناً يفاجئنا في غفلة منا كل حين! إلا أن التكنولوجيا ألغت براكين النار داخلنا، فكلما نضجت جمرة حزن فينا ألقينا بها في تنّور إحدى وسائل التواصل الاجتماعي لتلتهمها. أصبحنا نغلف لحظاتنا بـ"السولفان"، أو حتى في علبٍ صدئة، ونسارع بوضعها على عتبة باب إحدى تلك الوسائل.
لقد منحتنا هذه الوسائل فرصة ذهبية لأن نسرِّب البراكين، قبل أن تولد في أرواحنا جمرة... جمرة، وبفضلها أصبح لكل دمعة تخرج من قلوبنا الحق بأخذ ما تستحق من الاحتفاء، ولم تعد كما كانت قبل هذه الوسائل مجرَّد قطرة في طوفان خاتل جفناً ما وثار. ونحن أيضاً بفضل هذه التكنولوجيا لم نعد نربِّي دموعنا في مآقينا، حتى تبلغ سنَّ الرشد، وتطالبنا بنصيبها من أعمارنا، فكم من دمعة أهملنا أمرها وفوجئنا، متأخرين، بأن نصيبها ما تبقى من العمر! بفضل وسائل التواصل الاجتماعي أصبحنا نُلقي بدموعنا في مهدها على باب إحداها، لعل أحد العابرين يتولاها برعايته، وربما من فرط الرعاية يصبح لها أباً! ننام بفضل هذه الوسائل هانئين مطمئنين، لأننا أفرغنا كل ما على كاهل قلوبنا من حمل المشاعر أولاً بأول. كل لحظات يومنا بما تزينت به من شعور تركناها طازجة في ذمة إحدى وسائل التواصل، ولم ننسَ أياً من التفاصيل الصغيرة، ما منحنا القدرة على أن "نفلتر" ذواتنا عن طريق التخلص من طاقاتنا الإيجابية والسلبية، على حد سواء، في اللحظة ذاتها، لم تكن لدينا القدرة على ذلك من قبل. كنا كثيراً ما نغفل خلال يومنا بعض التفاصيل الصغيرة التي قد تتحوَّل إلى كابوس في منامنا ذلك اليوم، وبفضل هذه التكنولوجيا لم نعد نكتم آهاتنا تحت أضلعنا إلى أن تكبر، فتصبح خنجراً من وجع يشق حناجرنا على حين غرّة.لقد سمحت لنا هذه الوسائل، بفضل سرعتها، بأن نسدد ثمن انكساراتنا بالتقسيط المريح، لكن غير المنتهي بالتملك، ما جعلنا أكثر ألفة مع شظايانا، التي لم يعد نزف إحداها مؤجلاً إلى أن يولد في قادم الأيام جرح يصعب التئامه، ولهذه المكرمة التكنولوجية بحد ذاتها فضل عظيم في التقليل من تشوهاتنا، إثر قطرات دم ظنناها ستجف، فأصبحت ندباً لا يزول!
توابل - ثقافات
التكنولوجيا تعيد «أنْسَنَتْنا»! 2/ 2
08-02-2018