هيئات رفض التجنيد في إسرائيل
على الرغم من صحة ودقة الكثير من الانتقادات والملاحظات السياسية والاجتماعية الموجهة إلى إسرائيل، فإنها لم تشهد منذ عام تأسيسها في 1948، قبل نحو ستين عاماً، أي انقلاب عسكري أو ثورة.
قدم الكثير من الإسرائيليين الدعم والمساندة لمن رفض من المجندين أداء الخدمة العسكرية، أو عارض تنفيذ بعض الأوامر لأسباب إنسانية، و"تشكلت حركات وتنظيمات وجمعيات مدنية وشبه عسكرية"، يقول د. محمد أحمد حسين، "أخذت على عاتقها تقديم العون المادي والمعنوي والقانوني والعسكري للرافضين".يذكر الباحث أسماء العديد من هذه القوى المساندة مثل:1 - "رابطة رافضي الحروب لأسباب ضميرية في فلسطين"، التي تأسست عام 1947، ودعت إلى الامتناع عن أي عمل ينطوي على عنف، واعتبرت الحرب في حد ذاتها جريمة ضد الإنسانية يجب عدم الاشتراك فيها. ولكن، يلاحظ الباحث، لم تكن هذه الرابطة ذات فاعلية على الأرض، لأنها ظهرت في فترة "الحماس الصهيوني"، إذ كانت الرؤية السائدة، كما تقدمها الباحثة "أنيتا شابيرا"، هي أن "الحركة الصهيونية حركة تحرر وطني خيرة ومستنيرة دائما، ولكنها وجدت نفسها وسط ظروف كولونيالية اضطرتها- رغما عنها- لتبني توجه عدواني تجاه الشعب الفلسطيني".
2 - "حركة البوصلة"، وتعد أولى حركات الرفض بعد قيام إسرائيل. وفي عام 1971 أرسل أربعة من أعضاء إحدى المنظمات الاشتراكية رسالة إلى وزير الدفاع "موشيه ديان"، ت1981، أعلنوا فيها رفضهم تأدية الخدمة العسكرية في "جيش الاحتلال" تسفا هكيبوش... باللغة العبرية! وقد انشقت عنها "حركة البوصلة- اليسار الإسرائيلي الجديد عام 1971 ونافست الحركة الأم بميلها للاعتدال في المطالب، فلم يرسل أعضاؤها خطابا علنياً لوزير الدفاع، ولم يعلنوا رفض الخدمة العسكرية بشكل قاطع، بل طالبوا السلطات العسكرية بألا تجبرهم على الخدمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.3 - "حركة يش جفول"، وتعني "توجد حدود"، وهي من أهم حركات دعم الرفض، وشُكلت في عام 1982 بالتزامن مع بداية حرب لبنان الأولى، وكانت بدايتها خطابا موجها الى رئيس الوزراء ووزير الدفاع، وقع عليه ثلاثة آلاف جندي احتياط، بعنوان "توجد حدود". وقد أعربوا فيه عن رفضهم الخدمة العسكرية في الأراضي اللبنانية انطلاقا من أن هذه الحرب تقع خارج حدود دولتهم، وقد تعرض مئة وستون منهم لعقوبات تأديبية. وينبه الباحث إلى أن هذه الحركة "لا تؤمن بالرفض المطلق للخدمة العسكرية لكنها تشترط أن تؤدي الخدمة داخل ما يسمى "الخط الأخضر". واستمرت الحركة في نشاطها خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فكانت توزع أيام الجمعة منشورات على الجنود في محطة الحافلات المركزية في القدس بعنوان "الحرب ليست حربنا!"، واقترح ناشطوها على الجنود التوقيع على عريضة يعلنون فيها "لن نسهم في مواصلة قمع الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، ولن نشارك في نشاطات دركية أو في حراسة المستوطنات"، كما أقامت دعاوى قضائية ضد ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي أمام المحكمة الجنائية لارتكابهم جرائم حرب. وقد أثارت هذه الحركة جدلا ونقاشا حول دور الرفض الإنساني في المجتمعات الديمقراطية، وحدود الطاعة التي يجب أن يلتزم بها المواطن تجاه السلطات.4 - "بروفيل جديد- حركة مَدْيَنة المجتمع في إسرائيل"، وهي حركة أسست في عام 1988، تؤمن بمعارضة التجنيد الإجباري في الجيش وتقدم المساعدة لرافضي الخدمة العسكرية خصوصا الرافضين لأسباب ضميرية من دون أن يكون لها انتماء سياسي. وقد حددت الحركة في برنامجها أن هدفها هو الحد من الروح العسكرية التي تسيطر على المجتمع الإسرائيلي بهدف "مَدْينته"، أي إشاعة الروح المدنية، وأن يكون بعكس المجتمع العسكري مجتمعا مدنيا، وترى أن الحالة التي عليها الجيش الإسرائيلي تلحق بالجنود أضرارا بدنية ونفسية، وتقترح أن يتحول الجيش إلى جيش محترف من دون تجنيد إلزامي، وترى الحركة أن حالة الحرب الدائمة التي تعيشها إسرائيل ناجمة عن قرارات حكومة إسرائيل، وليست ناتجة عن واقع، ومن هنا تدعو الحركة إسرائيل للعودة إلى حدود "الخط الأخضر".5 - "شجاعة الرفض"- أوميتس لساريف، وقد شُكلت هذه الحركة في عام 2002، عندما وقع واحد وخمسون جنديا وضابطا احتياطيا على خطاب عُرف بـ"خطاب المحاربين"، أعربوا فيه عن رفضهم الخدمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة لأسباب ضميرية. وانطلاقا مما ورد في الخطاب أسسوا حركة "شجاعة الرفض"، وجمعوا 650 توقيعا، وترفع الحركة شعار "رفض الاحتلال هو الصهيونية"!يحلل الباحث في نهاية دراسته لظواهر رفض التجنيد والتمرد على الأوامر العسكرية في إسرائيل أسباب الرفض، ويشير الى جملة أحداث وتطورات أوجدتها وعززتها مثل:أ - تصدع العلاقة بين ما هو سياسي وما هو عسكري بعد توافق طويل في إسرائيل. ويقول د. حسين إن قرار الانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000 كان أحادي الجانب، وكان سياسياً لا عسكرياً، ومن مؤشرات تعمق التصدع الذي بات من ملامحه أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تعد تتسرع في المصادقة الآلية على المطالب التي يتقدم بها الجيش بخصوص ميزانياته، كما بات الكنيست يطالب بتطبيق حقه الدستوري في ممارسة الرقابة البرلمانية على الشؤون العسكرية. ب- الانقسام الشعبي حول أهداف حروب إسرائيل، بمعنى أنها حروب سياسية لا تفرضها ضرورات أمنية، بعد أن وصلت خلافات الساحة السياسية إلى الجيش، لتصبح التضحية بأرواح الجنود بلا طائل، وهو الأمر الذي حد من ثقة المجتمع بالقيادة العسكرية، فمنذ حروب عام 1967 نشبت حروب لم تنته أي منها بنتيجة حاسمة، ليعيش المجتمع الإسرائيلي سلسلة من المواجهات التي لا تنتهي من دون حسم.ج- من أسباب بروز مشاعر الرفض للتجنيد بين الشباب والاحتياط ما تلحقه هذه الحروب من أذى بالمدنيين حتى لو كان ذلك بدون قصد، حيث تؤدي التغطية الإعلامية دورا مؤذيا للأهداف الإسرائيلية وجنود جيشها، وبخاصة أن الجيش الإسرائيلي بات يقوم بعمليات بين المدنيين. ويشير الباحث "دان ياهف" في دراسة له بعنوان "حول تعريف جرائم الحرب- الخلفية والتطور"، إلى عدد من جرائم الحرب "التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في تعامله مع المدنيين العرب على مدى تاريخه، مثل القتل والاضطهاد والطرد وغير ذلك".د- الواقع الجديد والصورة الجديدة للطرف الفلسطيني اللذين شكلتهما اتفاقيات أوسلو، "فلم يعد الفلسطينيون العدو الشيطاني، بل هم طرف جدير بالتفاوض في عملية سلام متواصلة لها نتائجها على الأرض، ومن هنا زال- أو على الأقل خف- الشعور بأن خطراً وجوديا يحدق بإسرائيل، وبالتالي لم تعد هناك حاجة إلى التجنيد الإجباري".هـ- تدني دافعية الشباب للخدمة في الجيش في ظل خفوت الروح الوطنية بين الشباب، وترى بعض الدراسات التي يشير إليها الباحث، تنامي الروح الفردية، كما "أصبح بعض الشباب يرى في الخدمة العسكرية مضيعة للوقت، وأنها تجربة غير مفيدة ومسيرة استغلال وعنصر غريب في حياتهم، وأصبحت نقطة الضعف الكبيرة التي يعانيها الجيش الإسرائيلي اليوم هي عدم استعداد الجنود وأهلهم لتحمل عبء الخدمة العسكرية التي تضع حياتهم في خطر". ومما يضعف روح الإيثار والتضحية ويعزز الروح الفردية والازدهار الاقتصادي "الذي بات يقيس كل شيء بمقاييس المكسب والخسارة، فقد مر المجتمع الإسرائيلي بتحولات اجتماعية غيرت نمط التفكير والعادات والتقاليد لدى أفراده، فأصبح النمط السائد هو نمط السوق الرأسمالية الحرة في مجال الاقتصاد، وهو الذي فتح مجالات عمل جديدة في الداخل والخارج، بعدما أصبح النموذج للرجل الإسرائيلي المثالي هو رجل الأعمال أو مدير شركة للتكنولوجيا المتطورة، الذي لا يهتم أحد بسؤاله عما إذا كان قد خدم في الجيش أو في الاحتياط".و- معارضة حركة "الفيمينزم" النسائية، بصفتها أيديولوجية تنافس ذكورية الثقافة العسكرية، مع بروز دور المرأة في المجتمع الإسرائيلي. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن 40 في المئة من المتقدمات للتجنيد يعلنّ رفضهن للتجنيد سنوياً، ونسبة اللواتي يرفضن الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية ودينية تصل إلى نحو 30 في المئة من المجمل الكلي للرافضات، وتنال رافضات الخدمة لأسباب ضميرية ودينية معاملة خاصة من قبل السلطات، حيث يحصلن على الإعفاء شريطة امتثالهن أمام "لجنة الضمير" العسكرية للاستماع إلى ادعاءاتهن.ز- نقد وسائل الإعلام وتناول القضاء لقضايا الجيش: بدأت وسائل الإعلام وساحات القضاء في معالجة قضايا الجيش ومشكلاته بشيء من النقد، والكشف عن سلبيات المؤسسة العسكرية، فقد نظر البعض- في هذا السياق- إلى الإعلام على أنه أداة مهمة من الأدوات التي بمقدورها أن تسعف المجتمع المدني في مسعاه إلى ضبط شطط المستوى العسكري المستغرق في استشعار الأخطار عبر التغاضي عن الاحتمالات، ومهدت وسائل الإعلام لنقد الموضوعات العسكرية، فأصبحت المحاكم العسكرية تناقش قضايا تتعلق بالأمن الإسرئيلي، وتقضي في الشؤون العسكرية، وباتت المحاكم تناقش موضوعات تتعلق بالتجنيد وضوابط الترقية داخل المؤسسة العسكرية، وحوادث التدريبات وتفاصيل العمليات التي ينفذها الجيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة".ويختتم د. محمد أحمد حسين الدراسة بالاشارة الى أن المؤسسة العسكرية تبدي شيئاً من القلق في إسرائيل إزاء هذه الظاهرة، وتشكل اللجان لدراستها، ولكنها "مازالت تحت سيطرتها، وهي قادرة على احتوائها". ويضيف أن وجود هذه الظاهرة "يحقق بعداً إيجابياً للمؤسسة العسكرية من ناحية وللمجتمع الإسرائيلي من ناحية أخرى، لأنه يعزز ما تروج له إسرائيل من أنها دولة ديمقراطية حتى في مؤسستها العسكرية، فهي تسمح بالاختلاف حتى في المؤسسات التي لا يسمح فيها بالاختلاف، فهي بذلك وعلى حد زعمها "بلد ديمقراطي" حتى في جيشها".ولكن من الصعب موضوعياً اعتبار الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي مجرد "مزاعم"، فالواقع أنها اليوم دولة متقدمة ثرية متوسط دخل الفرد فيها أو الـGDP نحو 34 ألف دولار، وتحقق سنوياً تقدماً في الصناعة والتكنولوجيا والزراعة لا يضاهى في الشرق الأوسط، كما أن باحثيها ينشرون أكبر عدد من الدراسات العلمية.وبالرغم من صحة ودقة الكثير من الانتقادات والملاحظات السياسية والاجتماعية الموجهة إليها، فإن إسرائيل لم تشهد منذ عام تأسيسها في 1948، قبل نحو ستين عاماً، أي انقلاب عسكري أو ثورة، كما لا تزال حياتها البرلمانية والسياسية والعسكرية والثقافية مستقرة منتظمة، والرقابة القانونية فيها على أجهزة الدولة صارمة دقيقة والقانون فوق الجميع.ولنسأل أنفسنا: لماذا إسرائيل بهذه الحال ونحن على النقيض؟ هل هذه بدورها تمثيلية أم مجرد مؤامرة؟
من الصعب موضوعياً اعتبار الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي مجرد «مزاعم»