كان لافتاً انتقاص أهمية ثورة أكتوبر 1917 في تاريخ روسيا الحديث على الصعيد الرسمي، فقد أغفل ذلك الحدث بصورة هادئة من تقويم الأيام التذكارية الرسمية، ولكن على الرغم من ذلك فإن مراجعة الكرملين للتاريخ لا تخفي تماماً ما يمكن أن يشكل قوة دافعة: الخوف من عدم الاستقرار في المجتمع وفي أوساط النخبة السياسية الروسية التي تستطيع تهديد الدولة، كما أن تأثير الماضي يبدو وكأنه يثير البعض من القلق لدى الكرملين.وقد تداخلت تأثيرات الاضطرابات المرتبطة بثورة أكتوبر وتشكيل الاتحاد السوفياتي بعدها في شتى مناحي الحياة في روسيا. وإضافة إلى ذلك فإن وتيرة التغيرات الاجتماعية البطيئة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي كانت تعني أن الاشارات الجلية المتعلقة بالماضي السوفياتي لا تزال موجودة بكثرة في روسيا. وعلى سبيل المثال فإن أسماء الأماكن والشوارع في شتى أنحاء البلاد تذكر بالتراث السوفياتي. وفي مدينة تومسك التي تقع في قلب سيبيريا على بعد 1800 ميل إلى الشرق من العاصمة موسكو تظهر أسماء لينين وماركس والجيش الأحمر على لافتات الشوارع، والتغير البارز الوحيد حدث في أوائل التسعينيات من القرن الماضي عندما تمت استعادة الاسم القديم لساحة نوفوسوبورنايا (الكاتدرائية الجديدة) إلى ساحة الثورة التي تعود إلى العصر السوفياتي.
ولا يزال الشعور العميق بالماضي قائماً في أوساط الكثيرين من الروس العاديين الذين أصيبوا بخيبة أمل عندما علموا أنه لن يتم الاحتفال بشكل رسمي بالذكرى المئوية لثورة 17 أكتوبر في سنة 1917. وقد سمعت امرأة في الستينات من العمر تقول إنها لن تنتخب فلاديمير بوتين في الانتخابات المقبلة لأنه رفض الاحتفال بثورة أكتوبر. وهذه المشاعر تشهد تراجعاً وإن بصورة بطيئة، وحوالي 15 في المئة من المواطنين الروس خططوا للاحتفال بثورة أكتوبر في العام الماضي فيما كانت النسبة 23 في المئة في سنة 2006، بحسب تقرير صدرفي شهر نوفمبر الماضي عن مركز ليفادا وهو مؤسسة استطلاع آراء مستقل.
الاتحاد الروسي
وعلى الرغم من أن الاتحاد الروسي هو الخليفة الرسمي للاتحاد السوفياتي وبذلك يتوقع أن يواصل بعض التقاليد السابقة فإن الكرملين تجاهل إلى حد كبير مئوية ثورة أكتوبر. والأكثر من ذلك أن بوتين اختار افتتاح نصب تذكاري لضحايا القمع السياسي في موسكو في الثلاثين من شهر أكتوبر. واللافت أن الاحتفال تم عشية مناسبتين مهمتين في تاريخ روسيا الحديث: 4 نوفمبر وهو يوم الوحدة الوطنية الذي بدأ في سنة 2004 وحظي بشعبية بين الوطنيين وقوى جناح اليمين، و7 نوفمبر الذي بدأ الاحتفال به حتى سنة 1996 ولا يزال الشيوعيون يحتفلون به تحت شعار « ثورة أكتوبر العظيمة «.وقد أظهرت مئوية ثورة أكتوبر رفض الكرملين الواضح والثابت لميراث الثورة السوفياتية. ويقول بعض الخبراء إن النخبة السياسية الروسية لا تزال غير واثقة من كيفية التفكير في هذه المناسبة ولكن يبدو أن سنة 2017 وفرت الدليل الكافي لمواقف هذه النخبة. وخلال طفولتي وشبابي كان من المستحيل تفادي ثورة أكتوبر: كانت الثورة موجودة في كل مكان. واليوم تمت ازالة هذه المناسبة من الساحة العامة بصورة تامة، وتفضل الدولة الروسية أن ترى في سنة 1917 مادة لدراسة وتقييم تداعيات تلك المناسبة.وفي شهر نوفمبر الماضي ألقى رئيس مجلس الدوما سيرغي ناريشكين خطاباً في اجتماع الأكاديمية الروسية للعلوم وصف فيه فهمه لعواقب ثورة سنة 1917. وبحسب الأكاديمية الروسية للعلوم وهي مؤسسة مدعومة من الدولة ترتبط بعلاقات قوية مع المجتمع المهني فإن أسلوب ذلك المسؤول يهدف إلى «توعية جيل جديد من الروس الذين لم يحتفلوا قط بثورة أكتوبر» بأهمية الدروس المستقاة منها بالنسبة إلى روسيا وشعبها.وجهة النظر الرسمية
من وجهة نظر رسمية كانت تلك الدروس ترى أن ثورة أكتوبر ليست مجيدة ولا تمثل حدثاً إيجابياً حتى في تاريخ الأمة. وعلى العكس من ذلك هي حدث دراماتيكي ومعقد أفضى إلى تقسيم المجتمع الروسي وألحق المزيد من الألم والمعاناة بالبلاد. وتضم ما يعرف باسم الثورة الروسية الكبرى الآن ثورة شهر فبراير الجمهورية والثورة البلشفية في شهر أكتوبر -نوفمبر – ويرجع الفارق في التاريخ إلى تبني التقويم الغريغوري في سنة 1918 الذي أسهم في تقديم تواريخ الأحداث 13 يوماً. وتفضل الجمعية التاريخية في الوقت الراهن التشديد على ثورة فبراير سنة 1917 التي أفضت إلى تنازل القيصر وتأسيس الجمهورية الروسية. ويعتبر هذا تحولاً رئيسياً بعيداً عن الترجمة السوفياتية التي اعتبرت ثورة فبراير عديمة القيمة لأنها كانت ثورة بورجوازية وليست بروليتارية كما أنها لم تعالج النزاعات السياسية والاجتماعية في روسيا.«أكتوبر 1917»... انقلاب راديكالي لا ثورة
يعتبر الكرملين الآن أن ثورة أكتوبر 1917 (البشلفية)، التي كانت الحدث المحوري البارز بحسب التاريخ السوفياتي، مجرد انقلاب دعت إليه مجموعة صغيرة من الراديكاليين السياسيين، وبحسب وجهة النظر الرسمية فإن الخطر الأشد الذي كانت تمثله تلك الثورة هو الانقسام في أوساط النخبة السياسية في البلاد والذي وضع الدولة الروسية أمام خطر ماحق. وقد أشارت المناقشات المتكررة في الجمعية التاريخية الروسية إلى أن القوى الليبرالية التي كانت تقف وراء ثورة فبراير قد أضعفت نتيجة التنافس الداخلي ولم تتمكن من منع استيلاء العناصر البلشفية على السلطة في شهر أكتوبر سنة 1917. ويشدد هذا المنطق على مسؤولية النخبة السياسية ازاء الحفاظ على وحدتها من أجل قيام دولة قوية.وهكذا يمكن اعتبار سنة 2017 نقطة تحول في القراءة الرسمية للأحداث الثورية التي شهدها عام 1917 والتي عززت في الماضي الأمة السوفياتية، وبحسب فحوى مناقشات الجمعية التاريخية، فإن النخبة السياسية الروسية نأت بنفسها عن الماضي السوفياتي ولا تتوقع عودته من جديد مهما كان رأي النقاد في داخل البلاد وخارجها.لاريسا ديريغلازوفا – معهد كينان