الرئيس الأميركي يريد تحويل مكتب التحقيقات الفدرالي أداة بيده
في المرحلة التي سبقت نشر مذكرة مضللة عمداً، ندد بعض الجمهوريين بالفضيحة الكامنة، معتبرين أنها «أسوأ من ووتر غيت»، ولكن عندما نُشرت المذكرة تبين أنها لا تقدّم أياً مما وعدت به عن أدلة دسمة على انتهاكات نظامية، بل اكتفت بمعلومات يسيرة أخذتها من طلب واحد قُدم إلى محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية، ولم تحتوِ هذه المذكرة على التبرئة التي سعى وراءها الرئيس ونادى بها، ورغم ذلك تبقى هذه المذكرة بالغة الأهمية لأنها تقوّض نظاماً من الضوابط والقيود أُنشئ في أعقاب «ووتر غيت» وصُمم لحماية مكتب التحقيقات الفدرالي من تدخلات البيت الأبيض.شهدت السنوات التي تلت فضيحة «ووتر غيت» عدداً من التحقيقات الفدرالية في سوء استعمال تطبيق القانون والصلاحيات الاستخباراتية، بقيادة المدير ج. إدغار هوفر الذي شغل هذا المنصب طوال 40 سنة تقريباً، استهدف مكتب التحقيقات الفدرالي المجموعات السياسية المحلية التي اعتبرها «مخربة» لاضطلاعها بأعمال سرية وعمليات مراقبة مخالفة للدستور، شملت أهداف هذه الأعمال المجموعات الاشتراكية، والمتظاهرين المناهضين للحرب، ومجموعات الدفاع عن الحقوق المدنية وقادتها، من بينهم مارتن لوثر كينغ الابن.نتيجة لذلك ارتكزت حملة جيمي كارتر الرئاسية في عام 1976 على وعده أمة سئمت الفضائح أنه سيحصّن وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالي ضد التوجيهات والتأثيرات السياسية، وهذا ما فعله بالتحديد عندما وصل إلى سدة الرئاسة، واضعاً للمرة الأولى قواعد رسمية تحكم التفاعل بين وزارة العدل والبيت الأبيض، والأهم من ذلك على الأرجح أنه حوّل الأمل بعدم استخدام صلاحيات وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالي الاستثنائية كأداة لمحاربة خصوم الرئيس السياسية إلى حقيقة راسخة، ومع إضافة الضوابط والقيود الجديد إلى السلطة التنفيذية استُحدثت آليات مراقبة في الكونغرس والمحاكم أيضاً.
وهكذا سمحت لجان الاستخبارات في مجلسَي النواب والشيوخ للمرة الأولى لمجموعة مختارة من ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطياً بالإشراف على عمل الوكالات الاستخباراتية الأكثر حساسية والاطلاع على البرامج والأسرار الأمنية الوطنية الأكثر أهمية. وفي عام 1978 أُنشئت محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية بغية الإشراف على عمليات مراقبة المخابرات المضادة العالية السرية وإخضاعها للمزيد من الضوابط. صحيح أن الأعراف والمؤسسات التي تحمي وزارة العدل من التدخل السياسي امتُحنت في السنوات التي تلت، إلا أنها لم تتعرض مطلقاً لضغط مماثل لما تواجهه خلال عهد الرئيس دونالد ترامب.شهدنا خلال السنة الأولى من عهد ترامب جهوداً حثيثة لتقويض فصل السياسة عن وزارة العدل النزيهة في محاولة لتحويل صلاحيات التحقيق التي تتمتع بها هذه الوزارة إلى أداة سياسية شخصية بيد الرئيس. تجاهل البعض سلوك الرئيس، معتبرين ذلك تصرفاً طبيعياً من رئيس جديد، وخصوصاً أنه رجل أعمال يتصرف على هواه ولم يعتد أو يألف التفاصيل الدقيقة لهذا المنصب والحكومة عموماً.ولكن في السنة التالية اتضح أن الرئيس يعتبر فكرة «أن وزارة العدل لا تشكّل امتداداً لعمليته السياسية» قيداً غير مقبول يكبّل سلطته، فقد أخبر مراسلاً في شهر ديسمبر أن له «كامل الحق» في أن يتصرف كما يحلو له مع «وزارة عدل إدارته»، وقد سعى الرئيس إلى تطبيق هذا التصريح منذ اليوم الأول لتسلمه منصبه. منذ بداية عهده طالب ترامب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي السابق جيمس كومي بـ«الولاء»، وطرده عندما لم يحصل على هذا الولاء بإنهائه تحقيق فلين وإزاحته سحابة التحقيق الروسي، كذلك دعا مراراً إلى إعادة فتح التحقيق بشأن منافِسته في عام 2016 هيلاري كلينتون، بالإضافة إلى ذلك ندد علانية بالمدعي العام جيف سيشنز لتنحيه عن التحقيق الروسي، علماً أن هذه خطوة طلبها فريق محترف في وزارة العدل يُعنى بالمبادئ والأخلاق. أخيراً، أشارت بعض التقارير قبل أيام إلى أن الرئيس سأل المدعي العام رود روزنشتاين المسؤول رسمياً عن الإشراف على تحقيق المجلس الخاص عما إذا كان «ضمن فريقي»، وسأل أيضاً مدير مكتب التحقيقات الفدرالي بالوكالة آنذاك أندرو ماكيب عما إذا كان قد صوّت للرئيس.تكشف تصريحات الرئيس العلنية وسلوكه الخاص على حد سواء أنه يسعى جاهداً لتقويض المؤسسات والأعراف التي تحمي وزارة العدل من توجيهاته، ويزداد هذا الوضع خطورة إذا أخذنا في الاعتبار أن حملته الخاصة تخضع للتحقيق بتهمة التآمر المحتمل مع الروس في تدخلهم في الانتخابات الرئاسية، ويعمل ترامب للإمساك بزمام مكتب التحقيقات الفدرالي بغية حماية نفسه واستخدام صلاحيات التحقيق الواسعة التي يملكها ضد خصومه ساعة يشاء.ولكن فيما يشن الجمهوريون هجومهم الشامل على أسس حكم القانون في هذا البلد، يجب أن يتذكروا الانتهاكات التي دفعت إلى تشييد هذا الجدار بين وزارة العدل والبيت الأبيض والمخاطر التي يشملها تحوّل مكتب التحقيقات الفدرالي إلى مجرد أداة أخرى بيد الرئيس.● آدم شيف *- إسكواير* عضو بارز في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب.