ما زال أنصار منصات "التواصل الاجتماعي" الرائجة يدافعون عنها باعتبارها "فضاء حراً يعطي صوتاً لمن لا صوت له"، وهو أمر يمكن دحضه بكل بساطة؛ إذ إن الأكيد أن تلك المنصات لا تتمتع بالحرية المزعومة كما يعتقد هؤلاء الأنصار، بل إنها كثيراً ما تتحول إلى أفخاخ، تأخذهم إلى مخاطر فادحة، وتكلفهم أثماناً موجعة.ثمة عدد من الوقائع التي يمكن أن توضح هذه الفكرة، ومن المثير للاهتمام أن بعضها حدث في مجتمعات توصف بـ"الحرة" و"المتقدمة"؛ ففي عام 2010، جرت وقائع قصة مهمة في هذا الصدد، فقد حاول أحد المواطنين البريطانيين ويدعى بول تشامبرز أن يمازح متابعيه البالغ عددهم 650 شخصاً على موقع "تويتر"؛ فغرد قائلاً: "سأنسف مطار روبن هود!!". لكن السلطات البريطانية أخذت مزحته على محمل الجد، فأدانته بشكل أولي بتهمة "استخدام نظام الاتصالات العامة في التهديد"، وفقاً لقانون الاتصالات لعام 2003.
لقد تم إسقاط التهمة عن تشامبرز في مرحلة الاستئناف، لكن مواطنه فان بريان مُنع من دخول الولايات المتحدة الأميركية لمجرد أنه غرد على حسابه في "توتير" قائلاً: تفرغوا هذا الأسبوع لنميمة سريعة... سأذهب إلى أميركا وأدمرها".تنشئ معظم دول العالم راهناً آليات مستديمة لمراقبة التغريدات وغيرها من الآراء التي تُبث على وسائل "التواصل الاجتماعي"، وتتخذ إجراءات حيال أصحابها، وفقاً لما تعتقده سلطات هذه الدول في شأن مدى مطابقة هذه الرسائل للمعايير التي تعتمدها.في شهر يناير الماضي، اضطرت الفرنسية أمينة خان، التي باتت صاحبة أول وجه إعلاني لفتاة محجبة لدى شركة "لوريال" العالمية لمستحضرات التجميل، إلى الانسحاب من حملة إعلانية ضخمة تنفذها الشركة، بسبب بعض التغريدات التي بثتها على موقع "تويتر" في عام 2014.كانت خان في أوج الاعتداد، وهي تشعر أنها كادت أن تبلغ أهم مراتب طموحها؛ إذ أقنعت شركة ضخمة مثل "لوريال"، بقبول أن تكون فتاة محجبة ضمن فريقها للترويج لمنتجات العناية بالشعر، لكنها هوت فجأة إلى وضعية الدفاع عن النفس، واضطرت إلى تقديم الاعتذار، بعدما تم رصد تغريدات لها اُعتبرت "مناهضة لإسرائيل".لا تختلف قصة خان كثيراً عما جرى لمغنية فرنسية شابة محجبة تُدعى منال ابتسام، استطاعت إبهار كثيرين، بغنائها المقتدر، بالعربية والفرنسية، لأغنية "هاليلويا" (الحمد) الشهيرة، أمام لجنة تحكيم النسخة الفرنسية من البرنامج العالمي الرائج "ذا فويس".فبعدما شاهد غناء ابتسام أكثر من مليون مشاهد على "يوتيوب"، وعبّر عشرات الآلاف عن إعجابهم بأدائها المتقن للأغنية، وحسها الفني الراقي، الذي خلب ألباب محكمي البرنامج، باتت تلك الفتاة التي لا يتعدى عمرها الـ 22 ربيعاً، في موضع اتهام، واضطرت إلى الاعتذار، نهاية الأسبوع الماضي، والانسحاب من البرنامج.لم تفعل ابتسام سوى أنها غردت في عام 2016، معلقة على حادث "إرهابي" وقع في مدينة نيس الفرنسية قائلة: "جيد أن الأمر قد أصبح روتينيا، هجوم واحد كل أسبوع! ودائما يكون الإرهابي وفيا ويأخذ معه بطاقة هوية… صحيح، إنه عندما تحضر لعمل قذر لابد ألا تنسى بطاقة الهوية".يبدو أن ابتسام لديها رأي في الأحداث "الإرهابية" التي تقع في بلادها فرنسا، ويبدو أيضاً أن لديها شكوكاً معتبرة في هذا الصدد، وهي أرادت كمواطنة "حرة" تعيش في بلد "حر" أن تعبر عن تلك الشكوك، وقد اختارت منصة حرة (تويتر)، للتعبير بحرية عبرها... فأين الخطأ إذاً؟تصيد بعض المهتمين تغريدات ابتسام، وأعادت وسائل إعلام فرنسية نشرها بكثافة، وهو الأمر الذي استدعى تعليقات حادة على تلك الفتاة ذات الأصول السورية؛ وهي تعليقات اتهمتها بموالاة "الإرهاب"، وازدراء العلم، وخرق مقتضيات الأمن القومي الفرنسي.اضطرت ابتسام إلى الاعتذار، وبثت رسالة مصورة عبر حسابها على أحد مواقع "التواصل الاجتماعي"، صدرتها بكلمات ثلاث: "هالو... شالوم... سلام"، لتعكس حرصها على احترام التنوع، وعدم التمييز، ولتبعد الشكوك عن موقفها من الإرهاب، لكن هذا الأمر لم يشفع لها، خصوصاً بعدما أصر نقادها على استبعادها من البرنامج.وكما خضعت شركة "لوريال" للضغوط، وأعلنت "تقديرها" للخطوة التي أقدمت عليها خان بالانسحاب من حملتها الإعلانية، خضع أيضاً برنامج "ذا فويس"، وقبل اعتذار ابتسام، واستبعادها من المنافسات.إذا كانت هذه هي الحال في دول "العالم الحر"، فإن الأوضاع لدينا لا تبدو أفضل بالتأكيد؛ إذ نعرف الكثير من الوقائع التي بدأت بتغريدات على "تويتر"، وانتهت في السجون، أو الفصل من الخدمة، أو أروقة المحاكم.ثمة فنانون وإعلاميون ومثقفون أيضاً دفعوا أثماناً لتغريداتهم في أكثر من بلد عربي، وهو أمر لا يختلف كثيراً عما يقع في العالم الغربي، وإن كان محتوى التغريدات مختلفاً بطبيعة الحال.ففي عام 2016، تم طرد الممثل الباكستاني الأصل مارك أنور من عمله في المسلسل البريطاني الشهير "كورونيشن ستريت"، بعدما تم اتهامه بنشر تغريدات اُعتبرت "مسيئة" بحق الهنود، عندما أدلى بآرائه بخصوص النزاع الهندي- الباكستاني في شأن كشمير، وهو الأمر الذي اعتبرته قناة "آي تي في" المنتجة للمسلسل "أمراً مسيئاً عرقياً".تعطينا هذه الوقائع أمثلة واضحة عن الحالة التي بات عليها "تويتر"، ضمن غيره من وسائل "التواصل الاجتماعي"، وهي حالة يمكن تلخيصها كما يلي: "تويتر"، وغيره من وسائل "التواصل الاجتماعي"، منصات حرة، للتعبير عن الآراء بحرية، لكن تلك الحرية مقيدة بما تعتبره السلطات، والمجتمع، وجماعات المصالح النافذة، خطوطاً حمراء، وعندما يتم تجاوز تلك الخطوط، ستتوالى المساءلات والضغوط، التي قد تقصيك من مجالك، أو تعطل مشروعاتك، أو تأخذك إلى السجن.يرسي كل مجتمع، وتضع كل دولة، قائمة من القيم الحيوية التي تريد أن تحميها، وتنشط جماعات المصالح، وبعضها مغرض بطبيعة الحال، لكي تضيف إلى تلك القوائم ما يعبر عن مصالحها وأهدافها، وعندما تتصادم تغريداتك مع تلك المصالح، أو تخرق تلك القوائم، فإنك ستعاني كثيراً.وسائل "التواصل الاجتماعي" حرة، لكنها أيضاً أرشيفك، الذي سيُفتح يوماً، وسيفتح عليك النيران أحياناً.* كاتب مصري
مقالات
انتبه لتغريداتك... «تويتر» ليس سوى فخ!
11-02-2018