شكّل الثلث الأخير من القرن الماضي منعطفاً حاسماً في تاريخ النقد الأدبي في كامل الفضاء الثقافي العربي. فقد أحس النقاد، بعد سقوط مجموعة كبيرة من المشاريع الفكرية والسياسية الناصريـة والقومية والاشتراكية بجدوى قراءة النص استناداً إلى المخططات النقدية القديمة التي كانت تتعامل معه باعتباره وثيقة سياسية أو إيديولوجية لا قيمة لها إلا بما يمكن أن يكون لها من مردوديـة في الصراع مع السلطة ومؤسساتها. كانت هذه المخططات موزعة في الغالب على ما بشّر به بعض الممارسات النقدية التي كانت تحتمي تارة بالإيديولوجيـا باعتبارها جواباً ممكناً عن قضايـا اجتماعية أو سياسية، وتستعين طوراً بما يمكن أن تقدمه المعارف كافة المنتشرة فـي الموسوعة، أو تلك التـي تعود إلى حياة المؤلف، فهي الكفيلة وحدها بتفسير النص.
وفي الحالتين معاً، ظل النص غائبـاً في النقد، وإذا حضر فلا يحضر عند القارئ إلا باعتباره ذريعة لقول أمور في السياسة أو الإيديولوجيـا أو الاحتفاء بذاتية ترى في نفسها مصدراً لكل معنى.كان النقاد في الغالب يصفون عوالم خارجية يستثيرها النص بموحياته المباشرة وغير المباشرة، استناداً إلى أحكام جاهزة: لذلك لم يكونوا في عملهم ذاك ينتجون معرفة تغطي جزءاً من أنماط حضور الناس في الحياة وفي المجتمع.المخفي فـي النص فـي تصورهـم ليس طاقات دلاليـة تقتات من الرمزي في المقام الأول، بل هو «سياسة» أو «أخلاق» أو «أحكام إيديولوجية» تدين أو تحرض أو تحث الناس على التمـرد: إن النص موقف مـن السلطة صريح، مناهضاً كان أو مؤيداً أو ممالئاً. لذلك لم نكن نعرف إلا الشيء القليل عن عوالمه ولغته ومكوناته، وعلاقاته الداخليّة وآليات الإنتاج والتأويل فيه. فهذه العناصر مجتمعة لم يكن لها أي قيمة قياساً على الأهمية التي يوليها الناقد للمضمون الإيديولوجي المودع فيه.
تحليل الخطاب
يحدد الباحث سعيد بنكارد السميائيات بأنها تحليل الخطاب بمفهومه الواسع، ما يشمل مجموع منتجات السلوك الإنساني ويُصَنف ضمن المضاف الثقافي في حياة الناس، يدخل ضمن ذلك النصوص بكل أنواعها والمفاهيم المعزولة والأحكام المسبقة ومرويات التاريخ وما نسجته الذاكرة الفردية والجماعية من حِكَم وأمثال وأقوال مأثورة، وبما فيها أيضاً أشكال العمران وحالات العيش والطقوس الاجتماعية. فهؤلاء يُسَرِّبون أحلامَهم وآلامَهم إلى وقائع من طبائع شتى تُعشش فيها مجمل التمثلات التي تُعد الأساس الذي يقوم عليه جزء كبير من مضمون الأخلاق والسياسة والإيديولوجيا والدين.يوضح أن عودة السميائيات إلى العلامة ذاتها، أي إلى التجربة الرمزية، كانت مدخلاً مركزياً من أجل التعرف إلى هوية الإنسان باعتباره كائناً يأتي إلى العالم من خلال ممكنات اللغة في المقام الأول، فداخلها يولد وداخلها ينمو ويضمحل، وهو من يُضَمِّنها رؤاه لهذا العالم أيضاً. إنه يعي ذاته ويعي عالمه وفق آليات التقطيع المفهومي فيها، ما يشمل المظاهر والأبعاد والخصائص والنوعيات. وهي صيغة أخرى للقول، إنّ الوقائع الفعلية لا تتم في عراءٍ أو داخل فضاء غُفل، بل هي طبقات دلالية من طبيعة تراتبية لا تكشف جوهر الأشياء، بل تغطي على بعضها بعضاً في كثير من الحالات. يعتبر أن ذاك هو المبدأ الذي استندت إليه مجمل التعريفات التي حاولت تحديد جوهر اللسان ونمط اشتغاله وطريقته في إنتاج الدلالة والتنويع من تجلياتها. ومن هذا المبدأ انطلقت كلُّ التصورات النظرية القديمة والحديثة حول اللسان، وهو الإرث المعرفي ذاتُه الذي تبنته السميائيات ووسعت من مجالات تطبيقه.أساس الحياة
يرى بنكارد أن اللسان في كل هذه التقاليد ليس مدونة، أي مجرد تتابع عرضي لكلمات الغاية منها تقديم غطاء لما يَمْثُل حافياً في الطبيعة. إنه، على العكس من ذلك، يقدم وجوداً جديداً تكتسب داخله الأشياء والكائنات ذاكرة تنزاح بها عن إحالاتها على واقع مادي محدود في الشكل والدلالة. وهي طريقة رمزية استطاع من خلالها الإنسان أن يوسع من حجم الوجود ويملأه بدلالات، هو ما يتداوله الناس حقاً، وهو أساس تصوراتهم للمتعة والألم والحياة والموت. إنّ اللغة تَخْلق وتُحيي وتُميت ما تشاء من الكائنات والأشياء.