«واجب»!
تقتضي التقاليد العريقة المتبعة في مدينة «الناصرة»، التي تُعد واحدة من أهم المدن الفلسطينية (105 كيلومترات إلى الشمال من القدس)، والعاصمة الثقافية والإدارية والتاريخية لعرب الأرض المحتلة، أن يسلِّم أهل العروس دعوات حضور العرس يداً بيد و«بيت بيت»، وإلا دخل الأمر في باب الإهانة، ونُظر إليه بوصفه تجاهلاً وازدراء.من هذه النقطة انطلقت الكاتبة والمنتجة والمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر لتصنع فيلمها «واجب»، الذي ينتمي إلى نوعية «سينما الطريق»، التي تنتقل فيها الكاميرا من بلد إلى آخر، لتكشف طبيعة الأماكن والبشر، لكنها وضعت تصوراً جديداً، عندما اختارت ألا تتجاوز الكاميرا حدود «الناصرة»، وإن توقفت عند بنية المدينة، وطبائع أهلها، وخصوصيتها في ما يتصل بالتنوع العرقي والديني لسكانها، فالسيارة التي تُعد عنصراً مهماً في أفلام الطريق، تُقل الأب المدرس «أبا شادي» (محمد بكري) وابنه المهندس المعماري «شادي» (صالح بكري)، الذي يعيش في إيطاليا، وعاد ليساعده في التحضير لحفل زفاف شقيقته «أمال» على حبيبها «فراس»، وتوزيع الدعوات حسب الأصول «الناصروية». وطوال «الرحلة» يبدو الخلاف جلياً، والصدام واضحاً، من حيث الثقافة والأفكار وتذوق الفنون والأزياء، بين الأب والابن. فالأب كان يتمنى لو أن ابنه درس الطب بدلاً من الهندسة المعمارية، وخجلان لأنه ترك وطنه، وذهب ليستقر في إيطاليا، وممتعض لأنه يعيش مع فتاته «ندا» في شقة واحدة من دون زواج، فضلاً عن كونها ابنة واحد من مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، الذين ينطبق عليهم وصف «مناضلي الكباريهات»!
خارج السيارة بدت الفرصة مواتية لرصد التنوع العرقي والديني لسكان «الناصرة»، والوجود الإسرائيلي، رغم تجنب المخرجة التركيز عليه (العلم يرفرف في سماء المدينة، واثنان من الجنود الإسرائيليين يدخلان مطعماً فلسطينياً يبيع الفلافل)، والخوف الفلسطيني من العقاب الإسرائيلي (الهروب بعد قتل الكلب الإسرائيلي، والبحث عمن يتحمل مسؤولية المخالفات المرورية، وإصرار الأب على دعوة عميل في جهاز الأمن العام الإسرائيلي «الشاباك»)، والتوقف عند الوضع البيئي الكارثي (أكوام القمامة المُلقاة في كل مكان)، والعنف المحتدم بين الفلسطينيين أنفسهم في شوارع المدينة، لكن السيارة كانت فرصة أيضاً لتقارب بدا مستحيلاً، في بادئ الأمر، بين الأب والابن، بل إن العلاقة بينهما تبدو أقرب إلى علاقة سيدنا موسى والعبد الصالح المُلقب بالخضر، الذي كانت تنطق أفعاله بالحكمة لكنها مستغلقة على سيدنا موسى حتى قال له قولته الشهيرة: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً على ما ترى من أفعالي»، فالأمر المؤكد أن أفعال وأقوال «أبي شادي» كانت تبدو «قاسية في ظاهرها لكن في باطنها الرحمة». بل إنه تحلى بالحكمة في مواقف كثيرة بما يجعل الربط جائزاً بينه والجملة التي نطقت بها دعوة الزفاف: «بالحكمة يُبنى البيت وبالفهم يستقر»، مثلما تصلح كمدخل أو مفتاح للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي!«واجب» (96 دقيقة) فيلم إنساني عذب تمثل السياسة ركناً فيه لكنها لا تُغلفه بالفجاجة أو المباشرة المعتادة في مثل هذه النوعية من «أفلام القضية»، كذلك ينبض بالوطنية لكنه لا يتاجر بها، بل يضع ما يمكن وصفه «استراتيجية التعايش» مع الآخر الذي يسعى إلى محو الهوية (محظور على الفلسطينيين دراسة التاريخ في مدارسهم)، ويقدم نموذجاً للنقد الذاتي (مناهضة نهج تفكير ممثل المنظمة)، ويُرسخ معنى الوطنية (الأب يوهم ممثل المنظمة في إيطاليا بأنه يتحدث إليه على مقربة من شجر البرتقال وكروم العنب والبحر والجبال ليوقظ نعرته الوطنية التي فقدها في الغربة)، ويسعى إلى تقريب المسافات، وإزالة الفجوة، بين الأجيال (المواجهة بين جيلين (الأب والابن) وأيضاً (فلسطينيي الداخل والخارج) حول شكل وأسلوب التضحية). حتى الارتجال في الفيلم كان محسوباً، ومُرتباً له، فضلاً عن التصوير الرصين، والأداء الرائع من الممثل القدير محمد بكري وابنه، في الفيلم وعلى أرض الواقع، صالح بكري، فالفيلم رصد الصراع المحتدم في الأرض الفلسطينية المحتلة بشكل جديد، وقدم رؤية مختلفة لتناقضات وتعقيدات حياة لا نعرف عنها شيئاً، عبر أسلوب فني رائع، وسرد جذاب، ونهاية متفائلة توحي بإمكان وصول الأباء والأبناء إلى نقطة تفاهم.من هنا لم يكن إعلان فوز «واجب» بجائزتي المهر الطويل لأفضل فيلم روائي (المخرجة آن ماري جاسر) وأفضل ممثل (محمد بكري وابنه صالح)، في ختام الدورة الرابعة عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (6 – 13 ديسمبر 2017)، وجائزة «دون كيشوت» في مهرجان «لوكارنو السينمائي»، بعدما كان مرشحاً للفوز بجائزة الفهد الذهبي في المهرجان نفسه، وترشيحه لتمثيل فلسطين في سباق أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزيّة، بمنزلة مفاجأة إلا لمن يطلقون الأحكام من دون أن يبرحوا أسرة نومهم!