مع ارتفاع وتيرة القضايا المتداولة أمام المحاكم باختلاف أنواعها، والتي تزيد على مليون قضية في كل عام، تثور جملة من التساؤلات حول الحلول العملية لمواجهة الأعداد المتضاعفة سنويا، والتي لا يمكن ملاحقتها فقط بالاعتماد على زيادة العناصر القضائية والمباني المخصصة لنظر النزاعات القضائية، بل يتطلب الأمر إيجاد حلول عملية تسمح بعرض القضايا، التي يتعين على القضاء فعليا أن ينظرها بعد أن فشلت سبل التسوية أو التفاوض لتجنب عرضها امام القضاء.ولم تقرر القوانين والأنظمة القضائية في الكويت إمكانية طرح باب التفاوض والتسوية قبل عرض النزاعات على القضاء، حتى يمكن أن تساهم تلك التسويات في التقليل من أعداد القضايا المعروضة أمام المحاكم، وإنما سمحت بعرضها في بعض النزاعات رغم عدم فعاليتها في التقليل من فكرة التقاضي التي باتت بوابة لتغطية فشل العديد من الإدارات الحكومية التي عجزت عن حل النزاعات الإدارية التي يقيمها الموظفون ضد الإدارات الحكومية نتيجة الأخطاء أو التعسف الذي يرتكبه بعض المسؤولون تجاه إصدار قرارات خاطئة بحق الموظفين.
وعدم تفعيل دور التسوية بحسب القانون، طال الادارات المعنية على توليها وهو الامر الذي أدى الى ارتفاع عدد القضايا، بعدما أصبحت تلك الادارات تمارس دورا شكليا بسبب انعدام الدور الذي تؤديه في إتمام التسوية أو التوفيق بين الخصوم، رغم أن القانون أناط لها ذلك عبر الاستعانة بكل الوسائل التي تسمح لها بممارسة ذلك الدور الا انها عزفت عن تحقيقه!
التسوية والتوفيق
الحاجة إلى التسوية والتوفيق بين المتنازعين من المسائل التي يفتقدها الواقع العملي رغم صلتها المباشرة في التقليل من فكرة التقاضي أمام المحاكم، مما يسهم في سرعة فصل المنازعات أمام لجان فض المنازعات أو التسوية، وسيعمل على تقليل فكرة المصاريف المالية التي يحتاجها التقاضي أمام المحاكم من دفع رسوم قضائية او توكيل محامين لتولي الدفاع أمام المحاكم، فضلا عن تقليل سداد الدولة لرسوم وأجور لا يقابلها سداد من قبل المتقاضين عند التنازع فيها، وهو الامر الذي يكمن في الدعاوى العمالية أو الجزائية.الاستعانة بفكرة لجان فض المنازعات أو التسوية لحل العديد من النزاعات قبل عرضها أمام القضاء بقدر ما تعمل على تحقيق فكرة الصلح تعمل على تحقيق فكرة التسوية والتوفيق، وهو الامر الذي حققه المشرع الكويتي في العديد من القضايا، كالاحوال الشخصية بقانون الاسرة الاخير الذي قرر عدم اللجوء مباشرة للمحاكم في قضايا الطلاق للضرر والتفريق إلا بعد اللجوء إلى إدارة الاستشارات الأسرية لبحث أمر التسوية والصلح، وألا ترتب عدم قبول تلك الدعاوى، فضلا عن تقرير المشرع الكويتي لهذه الفكرة قبل الطعن على القرارات التي يرفعها الموظفون ضد القرارات الصادرة بحقهم بشأن الوظيفة بأن اشترط ان يتم التظلم منها اولا، وفي حال رفض التظلم يتم الطعن عليه أمام القضاء، واخيرا فيما يتعلق بالدعاوى العمالية فقد اشترط القانون على الموظفين اللجوء الى ادارة العمل لتقديم شكوى ضد رب العمل قبل اللجوء للقضاء والا ترتب عدم قبولها.الغاية التشريعية
ومثل تلك النماذج التي قررها المشرع الكويتي لفكرة التسوية بقدر ما هي ضرورية الا انها وللاسف غير مفعلة عمليا، ولم تحقق الغاية التشريعية منها، فبقدر سعي المشرع إلى تقليل فكرة التقاضي وإفساح مجال التوفيق والتسوية بين المتنازعين في تلك الانزعة، الا ان تلك اللجان لا تعمل فعليا على تحقيق تلك الغايات، لانها تعمل في الدفاع عن قراراتها الخاطئة او لقناعة القائمين على تلك اللجان بعدم جدوى أمر التوفيق من خلال تلك اللجان، وعندها لا تمارس جهودا فعلية وجدية لتحقيق مساعي التسوية، وجعلت اللجوء اليها امرا شكليا لا اكثر!ولتقليل فكرة التقاضي أمام المحاكم يتعين تفعيل دور لجان تسوية المنازعات والتوفيق بين المتقاضين، وهو الامر الذي يتعين على كل الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة في الدولة أن تشكل لجانا لفض المنازعات وتسوية النزاعات، وتعمل على تلقي الاعتراضات والتظلمات على أن ينتدب لرئاستها أحد القضاة أو القانونيين من المحامين أو اعضاء هيئة التدريس، على ان يكونوا من خارج الجهات الرسمية، ويكون عضو بتلك اللجان ممثلا عن النقابات، وآخر عن الجهات الحكومية، وتتخذ تلك اللجان قرارات بأحقية الموظفين في تظلماتهم أو برفضها، ومن يرفض تظلمه يحق له اللجوء الى القضاء.كم كبير
وطرح فكرة إنشاء لجان لتسوية المنازعات والفصل في الاعتراضات في الوزارات والمؤسسات والهيئات يأتي بهدف التقليل من الكم الكبير لعدد الدعاوى التي تتداول امام المحاكم، إذ كشفت الاحصائيات ان العام الماضي تداول ما يقارب 17 الف قضية ادارية أمام المحاكم الكلية والاستئناف والتمييز، بسبب قضايا أقامها موظفون ضد الجهات الحكومية، على خلفية طعنهم على قرارات إدارية، فضلا عن وجود دعاوى متبادلة بين جهات حكومية وافراد.وتشير الاحصائيات، التي تستدعي إنشاء لجان تسوية المنازعات، الى ان العام الماضي أقام نحو 7000 موظف حكومي طعونا على جهات حكومية أمام الدوائر الادارية بالمحكمة الكلية الابتدائية، بينما أحال ديوان الخدمة المدنية، الذي عرضت عليه التظلمات 3000 تظلم الى ادارة الفتوى والتشريع للنظر فيها.لكن ان طالبت «الفتوى» بسحب القرارات المخالفة للقانون لا تستجيب الجهات الحكومية لها، لان ما تصدره ليس ملزما، وتطالب بعرض الامر على القضاء، رغم انه بمقدور تلك الجهات الرسمية ان توافق على سحب القرارات الباطلة وتجنب خزانة المال دفع تعويضات باهظة للمتضررين من الموظفين!غربلة «لجان العمل»
ويجب غربلة لجان العمل التابعة لوزارة الشؤون، والتي يفترض انها تعمل على تسوية المنازعات بين العمال في القطاعين الاهلي والنفطي، وما يتعين فعليا أن يراعى في تشكيلها هو تعيين قانونيين متخصصين في عملية التحقيق في الشكاوى، وألا يبدأ التحقيق الا بعد التأكد من إخطار رب العمل بالشكوى واستدعائه للحضور، وعند حضوره أو من يمثله تبذل اللجان الجهود في التوصل الى التسوية، مع توفير خبراء ومحاسبين بلجان العمل يوكل لهم أمر احتساب حقوق العمال، وتعمل على التسوية على تقريرها بين المتنازعين الذين قد يكتب لهم القبول بنتائجها والموافقة عليها والعزوف عن فكرة اللجوء الى القضاء، والذي يجعل فكرة تطوير لجان فض المنازعات التابعة لوزارة الشؤون أمرا مهما سيقلل عدد القضايا المعروضة على المحاكم اذا علمنا ان دور لجان العمل التي تمارس دورا غير جدي بفض المنازعات تلقت العام الماضي 8000 شكوى، ونجحت في تسوية 676 شكوى عمالية من اصل 6000، ورحلت الادارة 2000 شكوى للعام الجاري، وهو ما يعني أن الجهود المتواضعة وغير الفعلية بمسائل التوفيق والتسوية نجحت في تسوية ما يقارب 10 في المئة من إجمالي عملها، بينما فشلت جهود التسوية في انجاز 90 في المئة من عملها، وتمت احالة ما يقارب 6000 شكوى عمالية الى القضاء، وهو الامر الذي يدعو الى ضرورة إعادة النظر في عمل تلك اللجان والدفع نحو تطويرها ودعمها بالكوادر القانونية المتخصصة بالتسوية والتوفيق، مع دعمها بعدد من الخبراء المحاسبين والموثقين لتوثيق عقود التسوية والصلح بما يقلل عرض تلك النزاعات امام المحاكم.إمكانية التفاوض
والأمر الأخير الذي يتعين النظر اليه عمليا هو النص في قانون الاجراءات والقوانين الجزائية المكملة للقوانين المقررة لأحكام الجنح والجنايات على إعطاء النيابة العامة أو الادارة العامة للتحقيقات، بحسب الاختصاص، إمكانية التفاوض والتسوية على قضايا الجنح والجنايات التي يمكن التصالح بشأنها بدلا من عرضها أمام القضاء، وذلك بالعرض على المتهمين سداد مبالغ معينة كغرامات طالما لم يكن هناك مجني عليه متضرر كجنح البلدية والمرور والبيئة والشؤون، وتقدر أعدادها بالآلاف، فيما القضايا التي يتصل بها مجني عليه من الجنح والجنايات فيتم الحصول على موافقة المجني عليه على التنازل ويغلق ملف الدعوى وهي في النيابة العامة.وبشأن قضايا الأموال العامة يتعين أن يسمح للنيابة العامة بأن تقبل الصلح مع المتهمين في قضايا المال العام برد المبلغ المختلس ومثله على سبيل المثال، لان إحالة ملف القضية وادانة المحكوم فيه سيعمل على إلزام المحكوم بالمبلغ برده ورد ضعفه مرتين كجزاء، ومثل هذا الأمر سيجعل العديد من المتهمين يقبلون بإغلاق ملفات القضايا أمام النيابة برد المبلغ المختلس ومثله لا ضعفه مرتين، كما أنه لن يكون مكافأة لمن يختلس أو يعتدي على المال العام، لانه اعاد المبلغ المختلس ومثله ايضا.