صحبة لصوص النار
كانت ولا تزال صنعة الكتابة تُحاط بالكثير من الأسرار والغموض. وكان الكُتاب، وربما لا يزالون، يتدثرون بما يكفل لهم ضمان هذه الخصوصية، ويجعلها محاطة بالسحر، وغيرها من معانٍ مشابهة، مثل: الإلهام وشياطينه أو ملائكته. ويكفي هذا العنوان: «صحبة لصوص النار»، الذي اختارته جمانة حداد، ليكون دالاً على ثلة من الكُتاب العالميين، الذين أجرت معهم حوارات ذكية وخصبة. إذ لا يزال الربط قائماً بين «فعل الكتابة» والأسطورة، بين تعاطي المعرفة وسرقة النار التي ارتكبها بروميثوس، فأنار الطريق أمام الجنس البشري، وفتح مغاليق عالم بدائي محايد، ورفع شعلة العقل المبدع.بدت جمانة حداد مصدقة للأسطورة وسائرة في سحرها، رغم أن كل من قابلتهم من كُتاب عالميين، أثبتوا لها، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الكتابة شغف في المقام الأول، ثم تأتي القراءة ثانياً، والتمرين المستمر على الكتابة ثالثاً، لتعزيز هذا الشغف، حتى يتحوَّل بالمداومة وطول المران إلى إتقان للصنعة. إن تواتر الكتابة عن الكتابة، وتبرع الكُتاب، في شتى مشاربهم، للتحدث عن تجاربهم وأحوالهم، جعل الدخول في هذا الحقل وفهم مكانيكيته أكثر يسراً وسهولة. وفي مرحلة تالية، تحوَّل فن الكتابة إلى علم يُدرَّس في الجامعات، ويقدم تقنياته ومهاراته طواعية للدارسين والمريدين. وربما تبرَّع الضالعون في فن الكتابة من مشاهير الكُتاب بتقديم دوراتهم التدريبية، حتى باتت هذه الدورات باباً آخر للرزق المتاح.
في كتابها (صحبة لصوص النار) تحكي جمانة حداد عن تجربتها في محاورة أكثر العقول شغفاً بالأدب والفكر. وكانت جريدة النهار اللبنانية، بدعمها اللامحدود، وإيمانها بهذا المشروع الثقافي، وراء هذه المبادرة التي دخلت في عوالم أكثر الكُتاب العالميين شهرة وأهمية، وأخرجت أدق ما فيهم وأكثره دلالة، وصاغته بعناوين مجاورة لأسمائهم. أمبيرتو إيكو: النص يفوق كاتبه ذكاءً. جوزيه ساراماغو: شرط الكتابة ليس الإلهام. إيف بونفوا: القصيدة سردٌ حلمي. بول أوستر: أحس دائماً أني مبتدئ. باولو كويلو: سبب نجاحي لغز. ماريو فارغاس يوسا: الرواية مملكة الكذب. مانويل مونتالبان: نحن عبيد شخصياتنا... إلخ.لم يتوقف ذكاء جمانة حداد عند صياغة العقل المبدع في جملة تختصره، بل قدمت لكتابها بتحليل لمعنى الحوار، فالحوار في رأيها «خلْقٌ»، و»سفرٌ»، و»علاقة إنسانية». وهو أيضاً «كدٌّ وغريزة» و»إصغاء وتعلّم» و»عبورٌ خفيف لروح في روح». وأخيراً هو «صنعة». وكان للحوارات صعوباتها أيضاً، ثم تجلياتها وآفاقها، إذ ليس من السهل أن تضرب موعداً مع إيكو أو باولو كويلو أو يوسا، لتأتي الموافقة على طبق من فضة. فلهؤلاء عنجهيتهم أيضاً، وتفضيلهم للعزلة، وغرورهم ربما، وغرابة أطوارهم، الأمر الذي يحتاج إلى صبر ومداهنة. ولكن ما إن يتحقق اللقاء، حتى تسبح المحاوِرة في عوالمهم، بما تملك من عدة الخلفية المعرفية، واللباقة، والقدرة على التوليد، والوصول إلى مفاتيحهم بأيسر الطرق. وفوق ذلك كانت تتحرى الصبر في أدائها، والأمل في غنائمها.تقول جمانة حداد في مقام تلخيص تجربتها الثرية في «فن الحوار»: «في الحوار دروس نجني منها غنائم مهمة، وأخرى أقل أهمية. هكذا جراء التسلل إلى رؤوس الكُتاب وحيواتهم، وجراء دخولي منازلهم أو مكاتبهم، أتيح لي أن أعرف تفاصيل جوهرية وحميمة عنهم، رويت بعضها، واحتفظتُ بما لا يُروى في ذاكرتي، مصدر لذة وتواطؤ. من بول أوستر تعلمتُ كيف تكون الكتابة هوية، ومن أمبرتو إيكو النهم واتساع الأفق، ومن بيتر هانكه فضائل الانسحاب من الحياة العامة، ومن باولو كويلو الإصرار على الحُلم، حتى عندما لا نصدقه، ومن ماريو يوسا فطرة الثقافة، ومن إيف بونفوا التواضع والبساطة والحنان، ومن أنطونيو تابوكي الإيمان العنيد بالمصادفات... ومن مانويل مونتالبان عشق الحياة الإبيقوري، ومن ريتا دوف معنى بناء الذات لبنة فوق لبنة، ومن الطاهر بن جلون الشفافية والتقشف. والحوار في ذلك عبورٌ خفيف لروحٍ في روح».