بين إعمار العراق وإعمار البدون
سينتهي "المؤتمر الدولي لإعمار العراق" دون أن نعلم بالدقة نتائجه، فهذا أمر طبيعي لمؤتمرات من هذا النوع. اعتدت المشاركة، كخبير مستقل، في الكثير من مؤتمرات المانحين بعدد من دول العالم، وهي في مُجملها أداة لا تحقق المُراد منها. فحالما يبدأ المؤتمر، تتعهد الدول بدفع مبالغ معيَّنة أمام الإعلام، لكنها تغادر موقع المؤتمر دون أن تدفع شيئاً. وعندما يحسب الحاسبون الحصيلة النهائية المدفوعة يُصابون بخيبة أمل. مؤتمرات المانحين حققت نتائج باهرة، قليلة، لكنها تبقى إحدى الوسائل التي ليس هناك بديل عنها.المؤتمر الحالي مختلف عن سابقيه، فهو مؤتمر تطغى عليه الصبغة الاستثمارية، فمؤتمرا المانحين لسورية، واللذان تبنتهما الكويت، وساهمت فيهما بمئات الملايين من الدولارات، كانا للمانحين فقط، وجاءا بطلب من الأمم المتحدة. وربما كانت الكويت هي الدولة الوحيدة التي أوفت بالتزاماتها كاملة، وسلَّمتها لهيئات الأمم المتحدة.المؤتمر الحالي أثار جدلاً على وسائل "التناحر الاجتماعي"، ليس في الكويت فقط، لكن في العراق أيضاً، وهو أمر متوقع، بين مؤيِّد ومعارض ومشكك، وبين مؤلف لروايات "أرسين لوبين". وككل الأمور، سينتهي المؤتمر ويذهب كلٌّ إلى داره، وسينتقل الناس إلى قضايا جدلية أخرى. الموضوع كُلُّه قائم على فرضية أن مؤتمراً كهذا سيسهم في إعادة إعمار العراق، وبالتالي المزيد من الاستقرار.
إعادة الإعمار ليست "كبسة زر" تتجمَّع لها الأموال وتنتهي القصة. فلدينا في الكويت مشاريع كثيرة يستغرق بناؤها وتكلفتها أكثر مما استغرقه بناء الأهرامات، ومشروع جامعة الشدادية ليس إلا واحداً منها. يحدث ذلك في بلد مستقر متوافر به المال. أما إذا كان الوضع مضطرباً، وغير مستقر، وتتجاذبه الدول، ومؤشرات الفساد كبيرة، كما هي حال العراق، فإن المسألة تصبح أكثر تعقيداً. ومع كل ذلك، أظن أن عقد المؤتمر مفيد للكويت، ولمستقبل الاستقرار بالمنطقة، كما أنه مفيد للعراق، فلا ندرك معنى المستحيل حتى يتحقق. الإشكالية الأخرى، أن متخذ القرار كان الحكومة، دون إشراك الناس، على الأقل في البُعد المعلوماتي والطبيعة الاستثمارية للمؤتمر، وطبيعة العبء المالي المتوقع أن تتحمَّله الكويت، والذي سيتجاوز بكثير بند "الزهور". كما أنه كان من المفترض نشر المعلومات الخاصة بدعم الكويت للعراق في السابق، حتى لا تختلط الأمور، وحتى لا يتعامل البعض وكأن المسألة مبتورة ولا سوابق لها. مكسب آخر للكويت تحقق بقدوم هذا العدد الكبير من الدول والشركات والمنظمات الدولية والإعلاميين، حتى حاز خبر المؤتمر الصدارة بين الأخبار العالمية، مع التقدير الضمني للدور الرائد الذي تلعبه الكويت في مضمار تقريب الناس والأمم، ودورها الإنساني، وهو أمر مستحق للكويت أن تفخر به، في كثير من الجوانب، لكنه يثير "المواجع" في جوانب أخرى. فالملاحظ على وضع حقوق الإنسان، وخاصة في قضايا حرية التعبير وتعريض العشرات للسجن، أنها تتراجع بانحدار سريع.أما خارج إطار المؤتمر، فقد كنت أظن أن فكرة الإعمار قد تسحبنا من أيدينا إلى الحالة البائسة التي يعيشها البدون في تيماء والصليبية وغيرهما، والتي لن يتخيَّل أحدٌ أنها موجودة في الكويت، لكن لا يبدو أن ذلك على سلَّم الأولويات. إعمار العراق، إن نجح في تحقيق أهدافه القريبة والبعيدة المدى، ونأمل له أن ينجح، يجب أن يرغمنا على صياغة مشروع حقيقي لإعمار البدون، فقد تم تدمير أحلامهم، والعصف بمستقبلهم، وتكسير آمالهم، وبالذات الشباب. بعد أن انتهينا من مؤتمر إعادة إعمار العراق أظن أنه آن أوان التفكير جدياً في إعمار البدون، وفي ذلك سيتحقق إعمار حقيقي داخل الكويت ينعكس على أمنها واستقرارها، وقبل هذا وذاك إنسانيتها.