الصمت في حرم الجمال خطيئة!
كلماتنا في الحب تقتل حبناإن الحروف تموت حين تقال!
تلك ليست سوى حيلة شعرية لشاعر عملاق بحجم نزار قباني يبرر فيها عجزه وفشله عن إيجاد ما يغري في الطرف الآخر لانهمار الكلام بين شفتيه، فاستجار بذريعة أن الصمت في "حرم الجمال... جمال"، كيف يكون الصمت هو حظ الجمال في حضرة شاعر؟! كيف لا تنبت فجأة حدائق الكلمات بين كل ضلعين من أضلعه ويمتلئ صدره بالحروف الملونة والزنابق؟! كيف لا يرتفع شراع المفردات، ليبحر في زرقة النور، ليأخذ المشاعر إلى مرافئ الدهشة؟! وإذا كان نصيب الجمال منا الصمت، فهل يعني ذلك أن البشاعة هي الجديرة بالكلام، وترتيل القصائد تحت شرفتها؟! وهل يتوج القبح بالشفيف من البوح؟! لا أظن أن نزار قصد ذلك، وهو العاشق للجمال والفراشة المنذورة للنور والزهور، والذي ترك لنا كل هذا الكنز الهائل من القصائد الرائعة المكتنزة بكل آيات الجمال ومعجزاته. إذن، لابد من تفسير لهذا البيت الخالد ذي المعنى المبتكر. وباستطاعتي، على ما أظن، أن أتخيل سيناريو الموقف الذي ولدت من رحمه تلك القصيدة، أتت تلك الأنثى مزهوة بجمالها الظاهر الفاتن، وهي على يقين أن ذلك الجمال كافٍ لإغراء شاعر وإغواء قناديل حروفه، لتكون تاجا من الأحجار الكريمة يزين ويكمل سحرها، إلا أن المفاجأة أن ذلك الجمال الظاهر لم يكن كافياً لاستدراج البلابل والجوقة الموسيقية في داخل الشاعر، الذي لم يجد في روح تلك الأنثى جمالاً يعزز جمال شكلها الظاهر، وكأنما جمالها ليس سوى نبت شيطاني بلا جذور تأصل انتماؤه لما يوصف به، فأصيب الشاعر بالسكتة الكلامية، أداته الوحيدة للتعبير عن الجمال، متمنيا بينه وبين نفسه أن يمر الوقت سريعاً، ليضع نهاية لورطة الشاعر وخيبته وانتكاس آماله. فعند قراءة القصيدة، ابتداء من العنوان، حتى آخر كلمة فيها، يبدو جليا أن الشاعر وقع في فخ الشكل الظاهر، فتلك الأنثى ليست سوى امرأة ساذجة وسطحية لا تجهل الحب فقط، إنما أيضاً تجهل الشعر والطريق إلى جنائنه وجنّاته، وقد بلغت حدا من الابتذال أدى بها إلى أن تشحذ الكلام الناعم، حتى إن كان كذباً، ولا أظن أن هناك أكثر ابتذالاً بالنسبة لشاعر من امرأة تطلب غزلاً فيها أو إطراء لها، فالغزل لا يكون بالطلب، لكن يحرضه الجمال، ويستثير في قاموسه الكلمات، والقصيدة لا يشعل جمرتها مجرَّد رغبة أنثوية في اقتنائها كإكسسوار، إنما يشرع أبواب صورها على مصارعها جمال آخر لا يرى بالعين. طلب كهذا أثار حفيظة نزار، الذي ورغم قسوة قصيدة "إلى تلميذة"، فإنه كان لطيفاً إلى أقصى ما يستطيع، حتى لا يقول لتلك التلميذة: الصمت في حرم الجمال خطيئة، إلا أن جمالك قشرة هشة تغلف الفراغ لا تستحق أن تخلّد، ولا شيء فيك يغري كلمة ناعمة بالتبرعم، وإن كتبت قصيدة بجمال كهذا ستكون قصيدة كهذه!