ديمقراطية ماكرون الزائفة
كان من المفترض أن يعيد إيمانويل ماكرون إحياء الديمقراطية الأوروبية؛ فقد وصل إلى سدة الرئاسة السنة الماضية مطلقاً حملة طموحة تعِد بـ«مؤتمرات ديمقراطية» تدفع المواطنين إلى قلب عملية صنع السياسات وتضعهم في مقدمة حوار جديد عن مستقبل أوروبا.بما أننا خبيران في مجال التجديد الديمقراطي، انتظرنا بفارغ الصبر نشر خطط ماكرون التي تهدف إلى تجديد عملية اتخاذ القرارات الأوروبية والسماح للشعوب بالمشاركة فيها، لكن آمالنا تحطمت.سيعتمد النموذج المقدّم في البرلمان الفرنسي على استبانة على شبكة الإنترنت تشمل أسئلة متعالية مثل «ما هي قيم أوروبا؟» و»ماذا تتوقع من أوروبا في حياتك اليومية؟»، فضلاً عن سلسلة من الاجتماعات في دور البلديات بغية اكتشاف آراء المواطينين العاديين في هذه الكتلة حول الاتحاد الأوروبي.
ستُنقل الأفكار الناجمة بعد ذلك إلى «لجنة سامية رفيعة المستوى تضم أوروبيين حكماء» وتعمل على تحويل هذه الأولويات إلى اقتراحات سياسية.لكن المشاركة لن تكون إلزامية، ما يعني أن مؤتمرات ماكرون ستتحول على الأرجح إلى لقاءات للرجال المثقفين عموماً، والأثرياء، والموالين لأوروبا الذين يسكنون المدن، ولا داعي لأن نذكر أن وجهات نظرتهم لن تمثّل عموماً عامة الشعب.إذاً، نموذج ماكرون قديم، ونخبوي، ومنفصل تماماً عن آخر التطورات في مجال التجديد الديمقراطي.هل يشمل هذا النموذج صوت امرأة في الثالثة والخمسين من العمر من الريف الروماني؟ أو صوت شاب من دابلن في الثانية والعشرين من العمر يجني قوته من العمل على دراجة في خدمة إيصال Uber Eats؟ولا تقف ثغرات نموذج ماكرون عند هذا الحد، فلا تُخصِّص الاقتراحات الموارد لإطلاع المشاركين على المعلومات الضرورية بشأن المسائل المطروحة أو الوقت للتداول، كذلك تُخفق خطة ماكرون في طرح أي مناظرة حقيقة خارج الإطار الوطني لأن الحوار الحقيقي على نطاق القارة الأوروبية بأكملها يصبح مستحيلاً عندما تقتصر المناقشات على تجمعات صغيرة متفاوتة تعيش في المساحة عينها. إذاً، إذا لم يتبنَّ الاتحاد الأوروبي الديمقراطية بالشكل السليم، فسرعان ما ستنتهي.من حسن الحظ أننا نملك أمثلة كثيرة لعمليات رائدة في مجال تجديد الديمقراطية قد تدفعنا إلى تبني رؤية للحوار أكثر جرأة. تشمل هذه المؤتمرات الدستورية في أيرلندا، تجمعات G1000 في بلجيكا، هولندا، وإسبانيا، تجمعات المواطنين في غدانسك بألمانيا، وأكثر من 50 مثالاً لتجمعات مواطنين نظمتها الحكومات في كندا وأستراليا خلال العقد الماضي. إذا رغبنا في نموذج أكثر طموحاً (هذا إن لم نقل أكثر شمولية وديمقراطية) قد يمنح المواطنين الأوروبيين صوتاً مؤثراً في صوغ سياسات الاتحاد الأوروبي، فمن الضروري أن يشمل تجمعات للمواطنين تُعقد على المستوى الوطني وتؤدي إلى لقاءات على نطاق الاتحاد الأوروبي ككل.على سبيل المثال، من الممكن اختيار عينة عشوائية من 100 شخص تؤخذ من كل من الدول الأعضاء السبع والعشرين للمشاركة، وهكذا تنجح هذه العينة التي تمثل المجتمع في انتزاع السلطة من يد السياسيين وتقدّم مشاركة أكثر تمثيلاً لشعوب الاتحاد الأوروبي. يلتقي المواطنون المختارون خلال أربع نهايات أسابيع على مدى بضعة أشهر بغية التعلّم أكثر عن الاتحاد الأوروبي ومناقشة المسائل الأكثر إلحاحاً اليوم. ويكون الهدف في كل بلد أن تتشاور المجموعة المختارة وتتوصل إلى لائحة بعشر أولويات في سياسة الاتحاد الأوروبي، متطلعة إلى عام 2030.فضلاً عن المشاركين الألفين والسبعمئة من المرحلة السابقة، من الممكن اختيار عشرة إضافيين عشوائياً من كل دولة. وعلى مدى نهايتَي أسبوعين، تستطيع هذه المجموعة المتنوعة من المشاركين (الشبان، المسنين، حملة الدكتوراه، الطلاب، والعمال العاديين، من الموالين للوحدة الأوروبية والمناهضين لها) مناقشة وجهات النظر المختلفة والتوصل في نهاية المطاف إلى قواسم مشتركة تتيح لها حصر التوصيات الوطنية بلائحة من 25 أولوية سياسية لإصلاح سياسة الاتحاد الأوروبي حتى عام 2030.من الممكن بعد ذلك طرح هذه السياسات للتصويت في منتدى أوروبي شامل متعدد الخيارات يتزامن مع انتخابات الاتحاد الأوروبي عام 2019. وبدل الاكتفاء بكلمة «نعم» أو «كلا»، ينبغي السماح للمواطنين بتقييم (بغية إظهار مدى موافقتهم أو رفضهم) وتصنيف كل من هذه الاقتراحات (بغية تحديد أهم الأولويات).في المرحلة التي تسبق الانتخابات، يجب أن يتلقى جميع الناخبين في الاتحاد الأوروبي كتيباً يضم الحجج التي تدعم كل اقتراح وتنقضه، تماماً على غرار ما تقوم به سويسرا اليوم.نتيجة لذلك، لا يصب الناخبون اهتمامهم على هوية الفائزين بل على الأولويات السياسية التي احتلت المراتب الأولى، وهكذا يمنح هذا النموذج المواطنين فرصةً للتأثير في مصير الاتحاد الأوروبي بدقة أعمق وفاعلية أكبر، كذلك يُرغم سياسيي الاتحاد الأوروبي على التفكير في ما يتخطى الدورات الانتخابية الوطنية والتركيز على الأهداف السياسية المشتركة الطويلة الأمد.علاوة على ذلك، تتيح هذه المقاربة لكل ناخب التأثير في الخيارات السياسية الأوروبية، وبما أنه يستند إلى عينات عشوائية خلال المرحلتين الأوليين، يُعتبر أقل نخبوية من عملية ماكرون المقترحة ويعود بفائدة أكبر على تنوع الآراء في أوروبا.لكن الأهم من ذلك أنه سيخرجنا من الخندق، بانياً سياسات عالية المصداقية حقاً وجاعلاً الأوروبيين مجدداً أسياد مصيرهم.أما البديل، فيقوم على إسكات المواطنين الغاضبين أو تخديرهم بأشكال فارغة من المشاركة. فمَن يلومهم بعد ذلك لاختيارهم الأحزاب الشعبوية؟● كلوديا شواليز وديفيد فان رايبروك - «بوليتيكو»