موسيقى حركات الإعراب
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
الحروفُ العربيةُ وحركاتُ إعرابها تنطوي على عنصريْ الموسيقى الأساسييْن: "الإيقاع"، و"اللحن". الإيقاع يتولد من ميزان تلاحقِ الحركة والسكون (الوزن). أما اللحن أو النغم، فينبثق من حركات الإعراب، ومن اللغة الشعرية للشاعر، التي تعكس طبيعة تجربته الداخلية. نتبينها حين نقارن قصيدتين من الوزن ذاته، لشاعرين مختلفين. والعربية في هاتين بالغة الوضوح والتميز، على خلاف الإنكليزية أو بعض اللغات الأوروبية التي يتماهى فيها إيقاع الشعر مع إيقاع النثر. لذلك، تبدو الدعوةُ لمحاكاة (شكل) Free verse الإنكليزي لدى بعض الكتاب (جبرا إبراهيم جبرا، عبدالواحد لؤلؤة، سركون بولص...) مُملاةً ثقافياً، ولا شأن لها بطبيعة اللغة الشعرية العربية. ولو كانت لغةُ الشعر الصينية ذات سيادة ثقافياً، كالإنكليزية، فستجد من يدعو، باسم الحداثة، إلى ضرورة اعتماد شكلها الإيقاعي في الشعر، رغم استحالة الإحساس بالإيقاع فيها، أو النغم.حين كنت صبياً، وقد علِقَ بي ولعُ القراءة، كانت كتبُ التراث هي المفضَّلة، لا لشيء إلا لأن حروفَها وحركاتِها تؤنس العين، وتُطرب الأذن. ولقد كنتُ يومها أخططُ وأرسم بالألوان على الورق والخشب، وإذا أطربني بيتُ الشعر أغنّيه. وهما عاملان سياديان. ولي خربشات في الكتابة تطورت فيما بعد إلى كتابة القصيدة. في الكتبِ المحققة كنتُ أحبُّ أن أقلدَ كتابة المخطوطات المصورة، التي أستعيدُ لذاذتها اليوم في طرق الكتابة بالمغرب العربي.من بين مطبوعات كتب التراث، كنت أحرص على اقتناء بعض ما أصدرته المطبعة الكاثوليكية، و"الكتاب المقدّس" ضمناً، بفعل خواص الحرف والحركات المطبوعة. من بينها كتاب "مجاني الأدب" للأب شيخو، الذي احتفظُ بجزئه الأول، المقتصر على منتخبات الشعر الجاهلي، حتى اليوم. بين حين وآخر، أُخرجُه وأتأملُ فنَّ الطباعة في توزيع المتن والهامش، والعناوين الجانبية للفقرات، بالحرف الواضح على شدة صغره. أتساءل إذا ما زلتُ أقرأ فيه، طمعاً بحلاوةِ النظرِ والسمعِ في الحروف وحركاتها المتلاحقة، كما كنتُ أفعل أيام الصبا، أم طمعاً باستيعاب هذه الكثافة التي تتمتع بها اللغة والصورة الشعريتان أيضاً، في هذه النصوص التي سبقت الإسلام؟ لا شك أنهما مهمتان، تُكملُ إحداهُما الأخرى الآن، وخاصة أن الميلَ إلى كتاب التراث، أقرؤه بإصاتة، صار أشبه باستراحة السنوات المتأخرة من العمر.