نحن القضية
نحن قوم غريبون، نترك الموضوع ونمسك بذيله، نلف وندور حول الأطراف ولا نتجرأ أن ندخل في العمق، نتفادى بكل طريقة مواجهة أي حقيقة يمكن أن تديننا أو تتطلب إصلاحاً من طرفنا. وهكذا حين تحدث وتحرك الرئيس الفلبيني حول وتجاه قضية عمالة مواطنيه في الكويت، تحول النقاش العام من ذاك المفترض أن يدور حول وضعية العمالة ومدى التزامنا كدولة ومواطنين بحقوقهم وأمنهم وكرامتهم الإنسانية الى ذاك الدائر حول أهداف الرئيس الفلبيني ووضعه السياسي الذي دفعه لهذا الموقف في هذا التوقيت. تركنا الموضوع، بكل مسؤوليته الإنسانية وأهميته الاجتماعية وخطورته الأخلاقية وأبعاده الاقتصادية، ومسكنا بتلابيب الرئيس الفلبيني و"أهدافه التآمرية" التي لاكها الناس هروباً من الاعتراف بحقيقة الوضع الذي نعيشه ونراه ونسمعه كل يوم.دع عنك المبالغات، إن وجدت، وضع جانباً نوايا الرئيس الفلبيني وأهدافه، تلك فعلياً ليست هي القضية، القضية داخلية، أخلاقية في عمقها، تتناول طبيعتنا كشعب، مصداقيتنا، رؤيتنا لأنفسنا، مدى إيماننا بالقانون، مدى اعتقادنا بالمساواة ومدى تمسكنا بالطبقية. في عمقها، هي قضية تتناول مرض الطبقية الكويتي الخطير، ومعضلة غياب العدالة القانونية المريعة التي عادة ما تفرض نفسها في كل قصة يكون أحد أطرافها أقلية من نوع. يشير كاتب الجريدة الرائع الأستاذ حسن العيسى لهذه المعضلة الفاحشة قائلاً في مقاله ليوم الأربعاء الماضي 15 فبراير أن "دعونا نتذكر أن دولة القانون ليست مجرَّد مباني محاكم عالية الأدوار، ونصوص دستورية وتشريعية متناثرة، هي ممارسة نهج عدالة وإنصاف؛ بداية ونهاية، مع اقتناع الأغلبية بمبدأ الحق، حين تقف هذه الأغلبية من المواطنين مدفوعة بثقافتها ووعيها الإنساني مع المظلومين، على سبيل التضامن والمؤازرة، لا من باب التعاطف والشفقة".
إنها تلك الثقافة وهذا الوعي اللذين يتهددهما خطر كبير خصوصاً في ظل الظروف الموبوءة الحالية، حيث ترتفع الأصوات النيابية، دون خجل أو احترام للدور النيابي واتصاله بالدور القانوني، لتبث الكراهية والأحقاد والعنصريات تجاه الآخر الأقلية، ولتلعب على مشاعر المواطنين بإشعارهم أنهم مهددون في بلدهم، مما يدفعهم، مشفوعين بالخوف ومحفزين بالعنصرية المكتسبة من الأصوات النيابية، إلى ترديد لغة الكراهية تلك لتصبح موجة عامة عارمة، تضيع فيها الكثير من الحقوق وتغيب بين طياتها أهم صفة تميزنا كبشر: الرحمة والرغبة في حماية الآخر ليس من باب إنسانيتنا المتطورة فقط، ولكن كذلك من باب حفظ النوع الجيني المتأصل فينا. ليس الموضوع موضوع تصريحات الرئيس الفلبيني وسفيره، ليست القضية قضية موقفهما من الكويت أو نواياهما أو أهدافهما. القضية قضيتنا: هل هناك مظالم؟ هل هناك تعذيب أو حرمان من أي نوع للعاملات في المنازل؟ هل هناك انتهاك للحقوق المادية للعاملين في المؤسسات العامة؟ هل يستطيع المقيم التقدم بشكوى للمخفر آمنا على نفسه؟ هل يستطيع الكويتي أن يتعدى على حقوق المقيم بوساطته؟ هل المقيم آمن على نفسه في مخافر الكويت إذا ما شكاه كويتي؟ هل عاملة المنزل تعامل باحترام إذا ما سلمها كفيلها للمخفر تهديداً وترويضاً؟ هل التسليم للمخفر تهديداً ترويضاً فكرة أخلاقية مقبولة؟ هل فكرة الكفيل فكرة قانونية وأخلاقية وإنسانية مقبولة؟ كان يفترض أن تكون هذه الأسئلة، وغيرها في الإطار ذاته، هي موضوعنا بعد تصريحات الرئيس الفلبيني، لا أن نتحاور حول نواياه وأغراضه ومشاكله السياسية وفساد إدارته، تلك الأسئلة لها مناسبة أخرى وزمن آخر. نحن في خطر، والخطر مكمنه في عقولنا وقلوبنا لا في الظروف من حولنا. الدنيا تتشكل من خلال أفكارنا وتطبيقها على أرض الواقع، لننظر داخلياً ونتحرَّ هذه الأفكار، هل هي أخلاقية؟ هل هي إنسانية؟ هل تطبيقها سيخلق مجتمعا أفضل؟ قبل أن نتلذذ في سماع الكراهية تخرج رذاذاً من الأفواه النيابية وهي تلقي، بصفاقة، بكل مشاكلنا على كاهل مقيمينا، قبل أن نتجاوب بغوغائية ونرفع مشاعل الكراهية لنلاحق بها المقيمين ونحرقهم بنيرانها، نقف للحظة ونتواجه وأنفسنا، هل لدينا ردود لكل الأسئلة السابقة ترضينا عن أنفسنا؟