«وادي السنط»
من بين أكوام الأفلام الهوليوودية، التي طالما روَّجت لقوة أميركا المطلقة، وأسطورة الأمة الخارقة التي لا تُهزم، تظهر بعض النماذج المغايرة على استحياء. أفلام نادرة وذكية تنتقد السياسات الأميركية، وتسلط الضوء على أمراض الأمة وحماقاتها، وما تجره من ويلات على أبنائها وشعبها. فيلم "The Valley Of Elah" أو "وادي السنط"، واحد من هذه الأفلام الناقدة، التي تقرع الجرس عاليا في ضمير أمة تأخذ أبناءها نحو التهلكة. بعد حرب فيتنام، كانت قد ظهرت مجموعة من الأفلام التي اهتمت بإظهار تأثير ويلات الحرب على الجنود الناجين، وأغلبها تركز على التأثير النفسي: صدمات نفسية وهلاوس وكآبة وانتحار... إلخ. فيلم "وادي السنط" لا يستعيد تلك العاهات النفسية فقط، إنما يطلق نبوءة شؤم واضحة وجلية، تخص مستقبل أمة تعاني وضعاً كارثياً، وتحتاج إلى إنقاذ، أو تدخل سريع.
شاهدتُ الفيلم سابقاً، ثم شاهدته للمرة الثانية قبل أسبوع بانتباه مضاعف. يبدأ الفيلم بمشهد حواري بين سيرجنت عسكري متقاعد، وأحد الجنود الجُدد الآتي من السلفادور بلا خبرة أو معرفة. رآه وهو يتخبط، في محاولة لرفع العلم الأميركي على السارية، فأسقطه على الأرض أولاً، ثم رفعه بالحبل بشكل مقلوب، بحيث جاء المربع المحتوي على النجوم إلى الأسفل. وبَّخ السيرجنت الجندي الأخرق بلطف، ثم وجهه قائلاً إن العلم لا يجوز أن يسقط على الأرض أبداً، ثم إن وضعه مقلوباً يعني بالعُرف العسكري المتفَق عليه، أن الأمة في كرب عظيم، وتحتاج إلى إنقاذ. لم يكن يعلم السيرجنت أن هذه الحركة التي ارتكبها الجندي الأخرق، سوف تصبح واقعاً ويقيناً يراه رأي العين، بل حقيقة مُرة، فيقوم بنفسه في آخر لقطة بالفيلم، برفع العلم الأميركي مقلوباً مع سبق الإصرار والترصد، مطلقاً صيحة التحذير، بأن بلاده في خطر محدق، وتحتاج إلى إنقاذ على المستوى الإنساني والأخلاقي. توصل السيرجنت المتقاعد إلى هذه النتيجة، بعد أن قضى رحلة مضنية في البحث عن ابنه، الجندي العائد من العراق، والذي التحق بعد العودة بوحدته العسكرية، ثم اختفى في ظروف غامضة. استعان السيرجنت بفريق من المحققين، للوصول إلى حقيقة اختفاء الابن، والبحث عن جثته، إن وُجدت، إلى أن قادته الأدلة، والصور والفيديوهات المخزَّنة في هاتف الابن، إلى حقائق مرعبة حول الممارسات التي ارتكبها ابنه وأفراد فرقته في العراق، مدفوعين بعدوانية مَرَضية، كإطلاق النار العشوائي، وتعذيب الجرحى، وقنص الأطفال في الحواري والأحياء... إلخ. لم تتوقف هذه العدوانية الصارخة عند هذا الحد، إنما استحالت إلى توحش وأزمة نفسية وعقلية مستفحلة، حين العودة من العراق، إذ بات الابن ورفاقه في السلك العسكري يتلذذون بإيقاع الأذى ببعضهم البعض، دون أسباب أو دواعٍ، اللهم إلا المزاح الثقيل، حتى وقع ابن السيرجنت ضحية لأحد رفاقه، حين انهال عليه بطعنات بلا عدد، ثم قطّعه إرباً، وأخيراً أحرقه ووزع لحمه المشوي في البريّة. لم يكن السيرجنت المتقاعد والأب المكلوم ليقرّ بأن ما حدث جريمة، إنما هو مرض عقلي شوَّه نفوس الشباب الأميركي، حين زُجّ به في أتون حروب وسياسات خرقاء، حوَّلته إلى هذا اللون من التوحش. وعليه، فقد هرع السيرجنت إلى رفع العلم الأميركي مقلوباً، ليدلل على أن الأمة في خطر محدق، يستدعي التدخل والإنقاذ. أما دلالة العنوان (وادي السنط)، ففيه إحالة إلى قصة توراتية، وفحواها أن النبي داود تطوَّع لمصارعة الوحش الذي هدد بني إسرائيل، بعد أن عجز غيره من الفرسان والمحاربين. استعان داود بحنكته، حين عرف كيف يحدد مكان الضربة في رأس الوحش، وتوقيت الضربة. لم يستعمل داود سلاحاً غير المقلاع (النباطة)، وبه حقق هدفه، ونجح في الإصابة، وخلص القوم من شرور الوحش. يعيد السيرجنت رواية هذه القصة، ربما ليؤكد ضرورة مواجهة الشرور بالحكمة والحنكة، وحسن التصويب. وسواءً أكان الوحش الذي يعنيه توحش النفس البشرية، أم توحش سياساتها الخرقاء، فالمعنى في النهاية واحد وسواء.