لأول مرة منذ خمسين عاماً اشتبكت القوات الأميركية والروسية بصورة مباشرة وكان الاشتباك الأخير بين الجيشين قد وقع إبان الحرب الفيتنامية عندما أسقطت القوات السوفياتية طائرات أميركية بأسلحة مضادة للطائرات، وقبل أيام حدث اشتباك بين القوات الأميركية والروسية من جديد عندما هاجمت الطائرات المسيرة الأميركية والمروحيات والطائرات المقاتلة قوة من العناصر الموالية للحكومة السورية على مقربة من مدينة دير الزور في شرق سورية، وكما تبين في وقت لاحق أنه كان من بين قتلى تلك العملية ما يصل الى مئة من المقاتلين الروس كانوا يقاتلون في سورية على شكل متعاقدين خاصين أو مرتزقة ولم يكن الكرملين يعترف بوجودهم بصورة رسمية في الأراضي السورية.وقبل وقت قصير نفذ أولئك المتعاقدون الروس الذين كانوا يقاتلون الى جانب ميليشيات قبلية موالية للحكومة السورية ضربة ضد قوات سورية الديمقراطية المدعومة من القوات الأميركية، وخلال العملية اجتاز المتعاقدون الروس نهر الفرات على مقربة من بلدة خوشام وانتهكوا بذلك ما اتفقت الولايات المتحدة وروسيا عليه على شكل خط فاصل لمناطقهما.
وبحسب تحقيقات نشرت في الصحف الروسية يشارك ما يصل الى ثلاثة آلاف متعاقد روسي في عمليات عسكرية في سورية ومعظمهم مرتبط بشركة تدعى «واغنر» ذات علاقات جلية مع يفغيني بريغوجين الذي كان صاحب مطعم في سانت بطرسبرغ وأصبح مقرباً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.ويبقى من غير الواضح سبب مهاجمة المتعاقدين الروس لمجمع في سورية يضم ميليشيات مؤيدة من الأميركيين، وقد يتمثل الهدف النهائي في مصنع لمعالجة النفط يوجد في تلك المنطقة التي تتمتع باهتمامات تجارية واستراتيجية في الحرب السورية الحالية.
التدخل الروسي
وخلال الثلاثين شهراً الأخيرة كان الرئيس الروسي يرى أن تدخل بلاده في سورية خدم العديد من المصالح هناك، حيث عمل على إنقاذ حكومة دمشق من التعرض إلى هزيمة، وأبعد شبح تغيير النظام، وضمن لموسكو دوراً مؤثراً لا يمكن إنكاره في الجوانب الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وفي ضوء عزلة روسيا في أعقاب النزاع في أوكرانيا يتعين على بوتين أن يعتبر ذلك تحولاً في فرصه كما أن ذلك منح المسؤولين العسكريين ومخططي الاستراتيجية في روسيا لاختبار جيل جديد من الأسلحة الروسية والخطط الاستراتيجية. وفي سورية عمدت موسكو إلى نشر طائرات مسيرة على نطاق واسع وقامت بغارات جوية بأسلحة موجهة بنظام غلوناس، ويقول رسلان بوخوف وهو محلل عسكري بارز ومدير مركز التحليل الاستراتيجي والتقنية إن «استخدام الشركات الحربية الخاصة يمثل جزءاً من هذه العملية القائمة على التجربة والخطأ»، وقد أبلغني أن «حضور مجموعات مثل واغنر في أرض المعركة في سورية يمثل ابتكاراً تاماً في الممارسة الحربية الروسية».كما أبلغني أحد المصادر من ذوي العلاقات القوية مع الشركات الحربية الروسية الخاصة أن وزارة الدفاع الروسية تزود واغنر بكل شيء من الذخيرة الى الطعام وحتى طائرات النقل من أجل نقل مقاتليها الى سورية وخارجها، وأوضح ذلك المصدر أنه «من وجهة نظرية يتعين أن توافق قيادة عسكرية على كل عملياتها وتكتيكاتها، ولكن هناك دائماً العامل البشري، مشيراً الى ما حدث في مدينة دير الزور، ومن الممكن أن أحدا ما على الأرض قد توصل الى اتفاق مع القوات المحلية السورية شبه العسكرية، ولم يعمد إلى ابلاغ هيئة القوات العسكرية الروسية أو أنه ضللها إزاء طبيعة المهمة. أو أن الجيش الروسي وافق على عمليات واغنر مع الزعم بعدم معرفته بها. وفي السنة الماضية حصلت وكالة الأسوشيتد برس على عقد بين شركة مرتبطة بواغنر ومؤسسة البترول السورية المملوكة للدولة تضمن ذلك العقد الحصول على خصم بقيمة 25 في المئة من الأرباح الناجمة عن إنتاج النفط والغاز من حقول استعيدت من سيطرة الميليشيات.الانتخابات الرئاسية الروسية
حتى الآن قدمت حملة روسيا في سورية ما يبدو أنها دفعة دعاية مجانية الى بوتين، ولكن بعد الخسائر الروسية في مدينة دير الزور قبل شهر من انتخابات الرئاسة قد تصبح الأمور أكثر تعقيداً بالنسبة الى خطة بوتين الرامية الى اعادة انتخابه لفترة جديدة، وكانت الإذاعات الرسمية في موسكو تتحدث عن عمليات عسكرية من دون الإشارة الى بشاعة الحرب البرية السورية، ثم إن الرقم المعترف به رسمياً للقتلى من الجنود الروس في سورية صغير– 46 فرداً– وحوادث الوفاة التي اعترفت بها موسكو علانية كانت تواكبها روايات بطولية مثل ذلك الطيار الروسي الذي فجر نفسه بعد أن حاصره تنظيم «داعش» الإرهابي بعد أن تم إسقاط طائرته فوق الأراضي السورية في وقت سابق من هذا الشهر، كما أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا المستقل أن نصف من شملهم الاستطلاع يرون أن على روسيا إرسال قواتها الى سورية.ويخشى الكرملين، وربما كان محقاً، من أنه لن يتمكن من تسويق عمليات حربية مكلفة لدى الشعب الروسي– وهو يريد الحصول على نفوذ جيوسياسي في الخارج ودفعة وطنية في الداخل من دون أي أصداء للحرب البشعة التي خاضتها موسكو في أفغانستان أو الشيشان. وفي الوقت ذاته، وعلى الرغم من أن التصريحات والحملات المريرة من جانب الرئيس بوتين وحاشيته مستمرة فليست هناك رغبة حقيقية في خوض نزاع مع الولايات المتحدة ويفضل المسؤولون الروس الاكتفاء باستعراضات بلاغية مخصصة للتلفزيون وليس لمواجهة فعلية، وينسحب هذا بقدر أكبر على فترة رئاسة دونالد ترامب حيث لا يزال بوتين يأمل تحقيق علاقات أكثر إنتاجية مع الولايات المتحدة أو على الأقل عدم الانجرار الى حرب عالمية ثالثة.رغبة موسكو
في العاصمة الروسية يسود شعور بأن الكرملين يريد زوال حادثة مدينة دير الزور بصورة تامة، ولا يزال على بوتين معالجة تداعيات تلك الحادثة بصورة علنية على الرغم من أنها حظيت بقدر طفيف من الاهتمام الإعلامي في روسيا. ويقول المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إن بوتين ليست لديه معلومات عن وجود مرتزقة روس في سورية، وأضاف بشكل محدد «لنكن واضحين يوجد عدد كبير من مواطنينا في العديد من دول العالم»، ولكن عندما سئل في وقت لاحق حول ما إذا كان بوتين سيعلن فترة حداد وطني أجاب أنه لا يعلم عن وجود حاجة الى إعلان فترة حداد.وفي غضون ذلك لا يبدو أن لدى ترامب وقادة القوات العسكرية الأميركية رغبة في جعل النزاع أكبر مما هو عليه، وقد حاول وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس التقليل من أثر هذا الوضع في ضوء تقارير تحدثت عن قيام قوات أميركية بقصف طائرات مقاتلة روسية وأبلغ الصحافيين أنه لا يعلم من تعرض لضربة جوية أميركية: «في الوقت الراهن لا أريد أن أتحدث عن ذلك لأنني لا أملك معلومات حول هذا المسألة».والسؤال هو: هل يعني هذا أن مقتل العشرات من الجنود الروس بضربة عسكرية أميركية مباشرة سيزول من دون تداعيات على الرغم من عدم احتمال ذلك؟ وقد أبلغني شخص مقرب من الشركات العسكرية الروسية في الأسبوع الماضي عن مشاعر غضب تعتمل الى حد الإحساس بالخيانة في حادثة دير الزور حتى مع صعوبة تحديد المسؤول عنها. * جوشوا يافا