القارئ، هذا الضلع الأكثر أهمية في مثلث الكاتب/ النص/القارئ، القارئ باعث الحياة في النصوص، وكاتبها الرديف، هو ماء حياة النص وسيده وصاحبه، بعد أن يخرج هذا النص من سطوة الكاتب إلى سطوته. ولأن القارئ متعدد، فالنص يتحوَّل أيضا إلى نصوص متعددة، ويحظى بتفسيرات بعدد قرائه.وبقدر ما نسعى في أدبياتنا إلى البحث عن كاتب مميز يثير اهتمامنا بنص مغاير ولغة مبتكرة، بقدر ما نسعى إلى البحث عن قارئ يتميز بقدرة على التشريح النصي والقدرة على التفاعل مع النصوص الجيدة. لكن السؤال الأكثر أهمية؛ كيف يوجد هذا القارئ وكيف يُشكل وعيه؟
في الأدبيات الغربية تطلق كلمة قارئ (Reader) على الناقد (Critic) أو الدارس (Scholar) المؤهل أكاديمياً في تشريح النص، كما تطلق على القارئ العادي الذي يبحث في القراءة عن متعة أولاً ومعرفة ثانياً. سأقتصر هنا على التعريف الأخير للقارئ، وهو ما يهمنا، لما في التعريفين الآخرين من تشكل أكاديمي وبناء مؤسَّس ينتمي إلى مدارس نقدية مهمة. وربما يفيدنا هنا أن نستعير من "أمبرتو إيكو" هذا الرأي حول قصة "مأساة باريسية حقا" لألفونس أليه: والحال أن قصة "مأساة..." كانت قد كتبت لتقرأ مرتين: فإذا اقتضت القراءة الأولى قارئا بسيطا، عمدت القراءة الثانية إلى اقتضاء قارئ ناقد يكون قادراً على تأويل فشل المبادرة التي قام بها الأول. هذا القارئ البسيط، كما يصفه إيكو، هو فاعل مهم في إحياء النص وإخراجه من رفوف المكتبة الأدبية والدراسات الأكاديمية إلى العامة عبر سلسلة من القراءات يقودها القراء من خلال توصيات أصبحت اليوم منتشرة، بفضل قنوات التواصل الاجتماعي. والقارئ غالبا يثق بما ترشحه له الدوائر الأدبية والتجمعات القرائية المنتشرة بكثرة اليوم. وبالتأكيد، ستلعب الجوائز الأدبية، بغض النظر عن رأينا واتفاقنا واختلافنا حول إخلاصها للأدب العربي والروائي تحديدا أو إخلاصها لذاتها، الدور الأكبر في ترشيح أعمال روائية دون غيرها للقارئ الناقد والقارئ العادي، ولا أفضّل تعريف إيكو له البسيط. الجائزة الأدبية، رغم عدم ثقتنا دائما، وكما دلّت التجارب السابقة، نقديا برأيها في العمل الأدبي، تقدم نصا للقارئ على أنه هو المثال الأكمل والأكثر جودة؛ لغة وتقنية وموضوعا، وبناء عليه سيرى القارئ أن هذه اللجنة المنتقاة هي الأجدر في الحكم على النص. يتشكل وعي القارئ تحت هذه الوطأة الغامضة، دون أن يهتم بخضوعها، لاعتبارات كثيرة غير فنية، ويرى أن قراءاته يجب أن تصبُّ في هذا المثال الأدبي الذي تم تقديمه. وربما يتجاهل أعمالا جيدة ومجيدة تم تجاهلها من القائمين على تقويم العمل الأدبي.الجدل الذي حدث أخيرا حول قائمتي البوكر هو جدال مهم وصحي، ولا أتفق مع الذين يطالبون بالتوقف عنه. المسألة ليست موقفا من جهة تريد منح جائزتها بناء على موقفها من هذا العمل أو ذاك، لكن هذا الجدل هو ألا نوحي للقارئ بأن كل هذه الأعمال الستة هي المثال الروائي والصيغة الأكثر اتقانا في السرد. الجدل هو حول حث القارئ على البحث عن العمل الروائي، والتمكن من تشكيل وعيه الخاص دون تأثير ذائقة أخرى، يعتقد بأنها الأكثر معرفة، في تشكيل هذا الوعي. ملاحظة أخيرة: لست ضد كل الأعمال التي رشحت، لكني أحرض القارئ على ألا يسلم ذائقته القرائية للجنة أو أصحاب جائزة.
توابل - مزاج
تشكيل القارئ
25-02-2018