في ظل حالة من الاضطراب العظيم تخيم على القسم الأكبر من منطقة الشرق الأوسط الآن، ربما ينبغي لنا أن نشيد بوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لأنه وضع الصراع السوري في الاعتبار خلال الرحلة التي قام بها إلى المنطقة مؤخرا.لم تكن مهمة تيلرسون سهلة، إذ كانت الدبلوماسية الأميركية غير مرئية في الشرق الأوسط، ولا يبدو أن وزارة الخارجية لديها أي أفكار، أو التمويل اللازم لكي تتولى الصدارة هناك، وإذا كانت الولايات المتحدة جادة بشأن معالجة الأزمة المهلكة في سورية، فيتعين عليها أن تبدأ بإظهار اهتمام مستمر- وتوظيف أموالها في محل خطابها.
الواقع أن تعقيد الموقف في سورية تجاوز كثيرا قدرة العالَم على السيطرة عليه، فالأحداث السريعة التغير، والعدد المتنامي من القوى المؤثرة هناك، وخطوط المعركة المتغيرة بلا انقطاع، كل هذا يشير إلى مستنقع.قبل ستة أشهر فقط، كان بوسعنا أن نميز اتجاهين واضحين في الصراع: فكان الرئيس السوري بشار الأسد، بدعم من روسيا وإيران وحزب الله، في طريقه إلى الانتصار؛ وكان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على وشك أن يُمنى بهزيمة تامة على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة. واليوم تبدو الحملة الناجحة ضد داعش باهظة التكلفة في أفضل تقدير. فقد أهدرت مئات الآلاف من الأرواح، ولا يلوح في الأفق أي حل للصراع الأكبر.بل اقترب العالَم من حافة الهاوية، ففي الأسابيع الأخيرة، اشتبكت إسرائيل مع قوات إيرانية في جنوب سورية لكي تُظهِر أنها لن تسمح لإيران بترسيخ وجودها هناك، وأطلقت تركيا حملة دموية ضد أكراد سورية، الذين تأمل أن تدفعهم حملتها إلى الخروج من منطقة عفرين في شمال غرب البلاد لمنعهم من الاتصال بالأكراد الأتراك عبر الحدود. وقد تقبل بشار الأسد الواقع وأشار إلى أنه قد يتنازل عن الأرض للأكراد السوريين، لكن تركيا تظل غير راغبة في تشجيع قيام كيان كردي مستقل على حدودها.من جانبها، أنفقت الولايات المتحدة السنوات الست المنصرمة في حشد مجموعات مختلفة من المقاتلين العرب السُنّة تحت رعاية ما يسمى القوات الديمقراطية السورية، والتي تمثل فرعا مما كان يسمى سابقا الجيش السوري الحر، وكانت بعض عناصر القوات الديمقراطية السورية أكثر فعالية من غيرها، حتى أنها قاتلت إلى جانب الأكراد ضد "داعش". ولكنها الآن تجد نفسها في مرمى النيران، ليس فقط نيران الأسد، بل أيضا نيران روسيا وأشكال متعددة من الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران.كانت الولايات المتحدة محقة في التركيز على إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش"؛ لكنها الآن تواجه مهمة أوسع نطاقا: ضمان بقاء حلفائها المتعددين على الأرض، ويثير هذا احتمال نشوب صراع مباشر مع قوى أخرى، وخاصة روسيا. والواقع أن الولايات المتحدة ربما قتلت بالفعل عشرات من المتعاقدين العسكريين الروس في غارة جوية أخيرة.أظهر قادة الولايات المتحدة وشركاؤهم الأوروبيون قدرا كبيرا من التردد في اتخاذ إجراءات صارمة ضد تركيا، شريكتهم في حلف شمال الأطلسي، فاكتفوا بحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ضبط النفس، لكن استمالة الآخرين ومحاولة إقناعهم بالعمل لمصلحتها، وهي واحدة من الأدوات الدبلوماسية المفضلة لدى الولايات المتحدة، نادرا ما تنجح في التأثير على أولئك الذين يعيشون في وطيس المعركة.وعلاوة على ذلك، يبدو أن تركيا لا تبالي بتصور حلفائها للأمر. على سبيل المثال أثارت تركيا مؤخرا الدهشة داخل دوائر حلف شمال الأطلسي مرة أخرى عندما اشترت الجيل الجديد من البطاريات الروسية المضادة للطائرات س-400. ولا يبشر هذا بالخير لأي عملية سلام في المستقبل، ففي نهاية المطاف ستحتاج الدول الغربية تركيا كثِقَل موازن للروس، الذين تذهب أجندتهم الاستراتيجية الأعرض إلى ما هو أبعد كثيرا من الشرق الأوسط.عندما ينظر المؤرخون إلى الصراع السوري سيثنون على كل من الرئيسين السابقين باراك أوباما ودونالد ترمب لملاحقتهما تنظيم داعش بلا هوادة، لكنهم سيلومون الولايات المتحدة لأنها لم تدرك أبعاد الحرب الأكبر.من الواضح بالفعل أن إدارة أوباما لم تكن تعرف على أي شيء كانت تساوم عندما دعت في عام 2011 إلى إزاحة الأسد، دون أن تفكر في ما قد يأتي لاحقا، ففي يوليو من ذلك العام، أُرسِل سفير الولايات المتحدة إلى سورية روبرت س. فورد إلى مدينة حماة السُنّية، حيث أمر والد الأسد بمذبحة قبل ثلاثين عاما، ووفقا لوزارة الخارجية في ذلك الوقت، فإن الهدف من الزيارة كان "الإعراب عن تأييدنا العميق لحق الشعب السوري في التجمع سلميا والتعبير عن أنفسهم". ألم تتوقع الإدارة حقا أن الأسد قد يستجيب لانتفاضة شعبية بالعنف، كما فعل والده؟عندما انحازت الإدارة الأميركية للجانب المناهض للأسد قبل سبع سنوات، كانت تؤكد مصلحتها الوطنية في سورية في حين تجاهلت مصالح قوى أخرى أساسية مثل تركيا، وروسيا، وإيران، وإسرائيل. والآن، مع تردد الولايات المتحدة، يلوح في الأفق خطر حقيقي يتمثل باندلاع حرب وكالة أميركية روسية كاملة الأبعاد.حتى وقتنا هذا لم تجد إدارة ترمب في الكارثة الإنسانية التي تواجه المدنيين السوريين أي حافز للتحرك، ولكنها ربما تبذل المزيد من الجهد إذا نظرت إلى التهديد الذي يفرضه الصراع على المنطقة بأسرها.إذا كانت الإدارة الأميركية راغبة في إظهار الزعامة الحقيقية، فينبغي لها أن تبدأ باستشارة القوى الإقليمية الأخرى حتى يتسنى لها أن تفهم المصالح المختلفة لهذه القوى وإمكانية التوفيق بينها، ولعل تيلرسون يحاول القيام بهذا على وجه التحديد الآن، لكن حتى قبل أن تسأل إدارة ترامب القوى الإقليمية ماذا تريد، يتعين عليها أن تطرح على نفسها السؤال نفسه، ومع ارتفاع المخاطر في سورية بسرعة كبيرة، لا يملك المرء إلى أن يتساءل أين تقف أميركا حقا؟* كريستوفر ر. هِل** مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون شرق آسيا سابقا، وكبير مستشاري رئيس جامعة دنفر لشؤون المشاركة العالمية، وأستاذ الممارسة في الدبلوماسية في جامعة دنفر، ومؤلف كتاب «المخفر الأمامي». «بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع "الجريدة"
مقالات
ماذا تريد الولايات المتحدة في سورية؟
26-02-2018