أنسي الحاج في ذكرى غيابه الرابعة... حاضر في قلب القصيدة
عالمه الشعري لوحة نابضة بعبق الحياة وهاجس الوقت
في الذكرى الرابعة لغيابه (18 فبراير 2014)، تجاوز الشاعر أنسي الحاج غربة الجسد التي عايشها طوال حياته، وسكن الظل راسماً أشكالاً بعيدة عن محدودية المعنى، ومتعمقة في الرموز التي تخترق كل نفس أو كل عقل يلج عالمه الشعري.
أنسي الحاج أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي، يتنشق قلمه عبير النهار ويغوص في عبق الألوان مبعداً عنه ضجر الحياة، ومبتكراً مساحة للحب، للقاء، وهو القائل: «لو لم نكن عشّاقاً لكنا محابيس الأديار، ومبشّري الأديان، وأنبياء المنفى. روح الزنابق نحن يا صديقي، ونحن وحدنا في الحب. والعصافير أَفْعَلُ للشر منا...».قصائده جماليات تطل على المكان الرحب وتتّسع لأدقّ تفاصيل الذات الدفينة، لكأنها تصحح الوجهة، من الضياع في الكون اللامحدود إلى الحياة النابضة بالحب. «صنع» أنسي الحاج الحرب على الكآبة والموت وتاق إلى أن «يصنع» سلاماً في داخله. عشق الحرية وعاش حراً مردداً في كل مناسبة «الحر لا يراقب نفسه»، ويتساءل: الحرية أريج من الحب راحة الهائم الخاوي، ولكن إلى متى؟ هل يكتفي الهواء بأن يكون هواء في مدى بلا بحر ولا نهر ولا شجر ولا كائنات؟»، ويقول: «لا تخفْ على الله من الحرية، فهي أضمن الطرق المؤدية إليه».
عاش هاجس الرحيل متمنياً أن يكون سكناه الأخير في قلب صادق محب: «لن أكون بينكم لأن ريشةً من عصفور في الربيع ستكلّل رأسي وشجر البرد سيكويني وامرأة باقية بعيداً ستبكيني وبكاؤها كحياتي جميل».قاتل الوقت بالحب وخشي على الحبيبة من أن يسرقها منه فصنع شوقه ليوصل إليها حبّه وعطاء معوضاً به المكان، ومبدلاً من خلاله الشرّ بالخير، فالحُبّ، بالنسبة إليه، يحتاج إلى لحظة وإنسان ليُحوّل لحظة أُخرى وإنساناً إلى السعادة...رسم أنسي الحاج في قصائده حياة دافئة، محورها الأم، الحبيبة، الله الذي حاوره كما يحاور ذاته أو شخصاً قريباً منه، فاكتسبت الحالات الإنسانية والمشاعر عندة أبعاداً خاصة نابعة من شخصيته الشفافة، كأن يقول مثلا: «الحب أعمى ولذلك يرى ما لا يراه المبصرون»، «المخدوع يبدو أقل انخداعاً إذا قهقه»، «نكتبُ لنقطع مرحلة، وما نكتُبه يُطوى، يُحرَقْ»، «الصوت الدافئ أكثر إقناعاً من دماغ اينشتاين»، «أريدك يا إلهي دائماً مثل هذه الأم»...
مسيرة إبداع
ولد أنسي الحاج عام 1937، وتشرّب حب الكتابة من والده الصحافي والمتّرجم لويس. تلقى دروسه في مدرسة الليسه الفرنسية ثم في معهد الحكمة. برزت موهبته الكتابية وهو بعد على مقاعد الدراسة وراح ينشر قصصاً قصيرة وأبحاثاً وقصائد في المجلاّت الأدبية. عام 1956، بدأ مسيرته المهنية في الصحافة في جريدة «الحياة» ثم في جريدة «النهار» كمسؤول عن الصفحة الأدبية التي حوّلها إلى صفحة أدبية يومية، من ثم أصدر عام 1964 «الملحق» الثقافي الأسبوعي الذي استمرّ لغاية 1974. وعاونه في النصف الأول من هذه الحقبة الشاعر شوقي أبي شقرا. تولى رئاسة تحرير مجلات إلى جانب عمله في «النهار»، من بينها «الحسناء» (1966 )، «النهار العربي والدولي» (1989-1977). ترأس تحرير «النهار» من 1992 إلى 30 سبتمبر 2003 تاريخ استقـالته.إلى جانب الصحافة كان لأنسي الحاج دور فاعل في الحياة الثقافية في لبنان في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، إذ ساهم مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة «شعر» (1957)، وأصدر في منشوراتها ديوانه الأول «لن» (1960)، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.له مجموعات شعرية من بينها: «لن» (1960)، «الرأس المقطوع» (1963)، «ماضي الأيام الآتية» (1965)، «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» (1970)، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (1975)، «الوليمة» (1994)، «كلمات كلمات كلمات» (1978)، وكتاب في التأمل الفلسفي والوجداني هو «خواتم».نقل إلى العربية مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وسواهم، وقدمتها فرقة مدرسة التمثيل الحديث (مهرجانات بعلبك) ونضال الأشقر وروجيه عساف وشكيب خوري وبرج فازليان. تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والأرمنية والفنلندية.
«صنع» أنسي الحاج الحرب على الكآبة والموت وتاق إلى أن «يصنع» سلاماً في داخله