«في الشعر الجاهلي» عنوان كتاب طه حسين الذي أثار ضجة في عشرينيات القرن الماضي، ويستخدم الناقد المصري الدكتور محمد بريري العنوان نفسه لكتابه الصادر عام 2017 عن هيئة قصور الثقافة المصرية، لكنه يضيف إليه عبارة «قراءة ثانية».هكذا لا يتفاعل عنوان الكتاب مع كتاب طه حسين الإشكالي فحسب، بل يتفاعل أيضاً كما يشير المؤلف مع كتاب الدكتور مصطفى ناصف الإشكالي بصورة مغايرة والمعنون «قراءة ثانية لشعرنا القديم». الكتابان رائدان في رأي الدكتور بريري: «ترجع ريادة طه حسين إلى مسألة المنهج كما طرحها في الصفحات الأولى من كتابه. أما كتاب مصطفى ناصف فتعود ريادته إلى ما فيه من تأويلات حداثية أجراها على الشعر الجاهلي» (ص 5).
منهجية طه حسين التي يشير إليها المؤلف تقوم على الشك العلمي في ما وردنا من مادة تراثية، وهو ما أفضى بطه حسين إلى الشك في جل ما وصلنا من الشعر الجاهلي، فيما عرف بقضية «الانتحال». وإعمالاً للشك العلمي نفسه، يشكك بريري في الفصل الأول من كتابه في ما توصل إليه طه حسين، ويتضح ذلك من عنوان الفصل: «إبطال قضية الانتحال». يحيى بريري تقاليد طه حسين العلمية على حساب نتائج طه حسين التي توصّل إليها مستخدماً أدوات عصره، وسيأتي بعد ذلك من يعارض آراء بريري باستخدام أدوات المستقبل وهكذا تدور عجلة المعرفة إلى الأمام.يبدو أهم ما يقوم به محمد بريري في قراءته الجديدة للشعر الجاهلي التأمل الحر المتأني لمادة الشعر القديم. التحرّر هنا مرتبط بما درجت عليه الأفهام من نظر متعال للشعر القديم وللشعراء القدامى، كذلك التحرّر من ربط النص بمؤلف يحتفظ بالمعنى في بطنه كما علمونا. التحرّر هنا جعل علاقة الناقد بالنص تتخلّص من حمولة تاريخية زائفة قوامها: قصد المؤلف وحدود وعيه، من دون أن يعني ذلك إهدار السياق الثقافي الذي كتبت فيه نصوص الشعر القديم. بل إن الوعي بهذا السياق هو مما يساعد على تقديم تأويلات جديدة مدهشة، تأخذ البعد التاريخي في حسبانها، لكنها تهمله حين تتعامل مع إمكانية موجودة في النص الشعري تفتح باب التأمل في معاني الوجود، والغوص بعيداً في الذات الإنسانية، وهو أمر استكثره الشراح معظمهم على الشاعر القديم. يظهر ذلك النهج المتأمل الحر في قراءة بريري نصوص قبيلة هذيل وربط بعضها بفكرة التمرّد، لا بوصفه حالة يجبر عليها الإنسان الذي خلعته قبيلته، بل بوصف التمرد اختياراً وجودياً يعبِّر عن أسئلة لا تجد حلاً. وفي فصل آخر يتفاعل بريري مع ما كتبه الدكتور مصطفى ناصف في تحليل معلقة امرئ القيس، موسعاً الرؤية لتشمل المعلقة كلها، وهو يقارن على سبيل المثال بين وضع المرأة في بداية المعلقة حين يقف الشاعر على الأطلال، حيث تمثل المرأة الفقد والغياب، ووضعها في الغزل الذي يلي الأطلال مباشرة كعلامة على الحضور، وإن كان حضوراً محملاً بالأسى، كأنما يمتد أثر البكاء على الأطلال في الغزل التالي له.تحليل بريري للنصوص مدهش حقاً، ويجعلك تفتح عينيك بصورة مختلفة على ما تعرفه من الشعر القديم، وإن كنت ممن لم يتعرفوا إلى الشعر الجاهلي من قبل، فهذا الكتاب خير فاتحة لذلك.
توابل - ثقافات
في الشعر الجاهلي مرة أخرى
01-03-2018