من الصعب تخيّل تبادل تيريزا ماي وجيرمي كوربين المعلومات السرية بشأن عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكن إذا قامَا بذلك فسيكتشفان أن بينهما قواسم مشتركة كثيرة، فقد أيدا كلاهما بفتور بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وحافظَا على مسافة بينهما وبين حمل الاستفتاء. كذلك تشعر ماي بكره وطني خفي لكل ما يفترض وجود أوجه شبه ثقافية وسياسية بين المملكة المتحدة وسائر دول القارة، في حين ينظر كوربين نظرة ريبة اشتراكية عميقة إلى المؤسسات التي تقوم عليها الأسواق الحرة، ونتيجة لذلك يبدو الاتحاد الأوروبي غريباً جداً بالنسبة إلى زعيمة المحافظين ورأسمالياً بإفراط بالنسبة إلى زعيم حزب العمال، لكن كليهما يرفض أن يحدد رد فعلهما هذا هويتهما، فهما يشككان في الوحدة الأوروبية بطبيعتهما ولا يعانيان رهاب أوروبا المشتركة.رغم ذلك، ما زال زعيمَا حزبَي المحافظين والعمال يجلسان إلى الطاولة ذاتها في المطعم عينه. طغت ردود الفعل المحمومة تجاه خطوة الاتحاد الجمركي على واقع أن كوربين أدلى بخطابه الأكثر تأييداً للخروج من الاتحاد الأوروبي منذ توليه قيادة حزبه. فقد استند في خطابه هذا إلى فكرة أساسية مفادها أن مخاطر الخروج من الاتحاد الأوروبي صُوِّرت بطريقة مبالغ فيها، وأن الخطر الحقيقي الوحيد ينبغ من تولي المحافظين "الأشرار" تنفيذ هذه العملية برمتها.
فضلاً عن أن الواجب الديمقراطي يقضي باحترام نتائج الاستفتاء، يعتبر كوربين أن الخروج من الاتحاد الأوروبي هدف منطقي مرغوب فيه بالتأكيد، شرط أن يتولى حزب يساري تنظيمه. لطالما عكست أعمال زعيم حزب العمال هذه الغاية بطريقة مبطنة، لكن تصريحه العلني سيخيّب، رغم ذلك، أمل كل مَن يرجو في سره أن المعارضة تعمل على خطة تخريب خفية، منتقدةً بطريقة تكتيكية المحافظين من دون أن تطالب بالبقاء لأن الرأي العام غير مستعد لسماع ذلك، فكوربين أنزل أوراقه على الطاولة، واتضح أنها تدعم الخروج بقوة.لكن هذه خطوة خطرة بما أن غالبية أعضاء حزب العمال يعارضون الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى إن بعضهم يكنون له كرهاً شديداً، وخصوصاً أنصار منظمة "مومينتوم" الذين يدينون بالولاء لكوربين شخصياً، فلم يتزعزع إخلاصهم حتى اليوم، إلا أن عدداً منهم قد يشعرون بخيبة أمل عندما يكتشفون أن بطلهم لن يحمل العلم الأزرق والأصفر دفاعاً عن وحدة أوروبا، وبالنسبة إلى أنصار "مومينتوم"، يراهن زعيم حزب العمال على أن الثقة الشخصية في رجل يدعونه بكل بساطة "جيرمي" أقوى من تمسكهم بشارة البقاء العقيمة، وهكذا تستند مناورة كوربين إلى خروج ناعم من الاتحاد الأوروبي.تشمل هذه الصيغة الحفاظ على بعض المعايير بشأن العمال والحماية البيئية التي يسعى بعض المحافظين إلى تمزيقها. كذلك تفرض ضوابط على الهجرة، إلا أن نظام الحدود الجديد الذي يحظى بموافقة كوربين يخلو من أي تحيّز عرقي. أما التفاصيل الأكثر رأسماليةً المتعلقة بالاتحاد الأوروبي (القواعد التي تحد من سيطرة الدولة على الصناعة مثلاً)، فمن الممكن التعاطي معها من خلال "خطوات الحماية، والتوضيحات، والإعفاءات". إذاً تعني هذه الرزمة بأكملها مغادرة السوق المشتركة إنما بطريقة ودية مجزَّأة.لعل "حسب الطلب" العبارة الأهم التي استخدمها كوربين لوصف هذه العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، علماً أنه اقتبس هذا المصطلح من كتيّب ماي للمناورات المخادعة بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، أوضح كل القادة الأوروبيين أن مزايا السوق المشتركة تأتي كنظام متكامل لا ينفصل عن واجبات التقيّد بالقواعد، فمن غير الممكن انتقاء الكرز اللذيذ في طبق هذا الكيان وترك الحصى العقائدية الصعبة الهضم. يشكّل هذا واقعاً قانونياً لا موقفاً قابلاً للتفاوض، ولا فارق إن كان حزب العمال يتمتع بثقة أكبر في بروكسل لأنه يؤيد الوحدة الأوروبية أو إن كان الكرز الذي يريده كوربين يقع على الجانب الأيسر من الشجرة، أو إن كان ينادي بخروج يعطي الأولوية للوظائف.للخروج من السوق المشتركة كلفة اقتصادية كبيرة، بغض النظر عن الدافع وراءه، وعلى كل قائد وطني قدير أن يوضح هذا الواقع لشعبه، ولكن لا رئيسة الوزراء ولا منافسها زعيم حزب العمال يريدان القيام بذلك، صحيح أن موقفَيهما يشغلان طرفَي نقيض على الطيف السياسي، إلا أنهما متوازيان. يرغب كلاهما في الخروج من الاتحاد الأوروبي ويدّعيان أن من الممكن تحقيق ذلك من دون ألم، كذلك يخوض كلاهما مساراً غامضاً ملتفاً، على غرار سباق دراجات بطيء، نحو فهم أن الخروج من الاتحاد الأوروبي على أرض الواقع مختلف كل الاختلاف عن نظريات الخروج التي سادت خلال حملة الاستفتاء. وبعد ذلك التصويت انطلق كوربين وماي في مسارَي تصادم متوازيين مع الواقع، لكن أفضلية زعيم حزب العمال الأكبر تكمن في أنه يملك الوقت والمسافة الكافيين لتصحيح مساره، أما رئيسة الوزراء، التي تتعرض لضغوط حزبها، فقد سارت بجهد أشد وسرعة أكبر نحو المستحيل، لذلك ستتحطم أولاً.* رافايل بير* «الغارديان»
مقالات
كوربين يتقدم على ماي رغم مخاطر مناورته
04-03-2018