اصطفاف مدني ديمقراطي وحُريّات
يضيق هامش الحريات المدنيّة عادة في الدول التي تُحتكَر فيها السُلطة، إذ كلما اتسع هامش المشاركة السياسية في السُلطة التنفيذية ارتفع سقف الحريات المدنية والشخصية التي لا تقتصر على الحريات السياسية فقط، وإنما تتعداه لتشمل كل الحريات العامة والشخصية. وعلى الرغم من ادعاء حكومات الدول غير الديمقراطية أن هدف تقييد الحريات المدنية والشخصية هو استتباب الأمن، فإن التاريخ يُبين أن العكس هو الصحيح، فالأمن يستتب أكثر مع ارتفاع سقف الحريات، وعند إلقاء نظرة سريعة على خريطة العالم سنجد أن الدول المدنية الديمقراطية هي الدول الأكثر أمناً واستقراراً ونمواً من النواحي كافة.
وإذا ما طبقّنا ذلك على وضعنا المحلي فسنجد أن هامش الحريات المدنية قد تقلّص بشكل لافت ومؤسف خلال السنوات القليلة الماضية، وهي الفترة التي بدأت مع موضوع انفراد الحكومة بإقرار النظام الانتخابي (ما يُسمى نظام الصوت الواحد المُشوّه وغير الديمقراطي الذي هو في حقيقة الأمر عُشر صوت لكل ناخب!) وتحكمها بمجلس الأمة، أي عملياً احتكار السُلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو ما يتعارض مع مبدأ ديمقراطي أصيل وهو فصل السُلطات. ولقد أُقرت، خلال هذه الفترة وبلمح البصر، ترسانة قوانين مُقيّدة للحريات المدنية مثل قانون البصمة الوراثية الذي ينتهك خصوصية البشر، وتم إقراره خلال ساعات معدودة (ألغته فيما بعد المحكمة الدستورية)، وقوانين الصحافة والنشر، والمرئي والمسموع، والإعلام الإلكتروني وجميعها قوانين رجعية تُضيق على حرية الرأي والتعبير والتجمع وحرية النشر وتداول المعرفة، وهو الأمر الذي تسبب في سجن عدد من المواطنين لمجرد كتابة مقال على شبكة "الإنترنت" أو تغريدة على "توتير" عبّروا فيهما عن آرائهم. أما موضوع التضييق على الحريات الشخصية التي يكفلها الدستور في حين دور القانون هو تنظيمها فقط لا تقييدها أو حظرها، فتتولاه، نيابة عن الحكومة، تيارات الإسلام السياسي (سنية وشيعية) بأشكالها كافة بعد أن مكّنتها أنظمة الحكومة وقوانينها المُفصّلة من الوصول إلى سُلطة صُنع السياسات العامة، واتخاذ القرارات المتعلقة بالشأن العام، وشجعتها الحكومات المتعاقبة مادياً ومعنوياً على الانتشار في المجتمع، وذلك على الرغم من معاداتها للحريات المدنية والشخصية والقيم المدنية الديمقرطية.من هذا المنطلق فإن العناصر والقوى المدنية والديمقراطية والتقدمية هي وحدها المعنية، بحكم مبادئها ومنطلقاتها الفكرية والسياسية، في الدفاع عن توسيع هامش الحريات العامة والشخصية، وعلى عاتقها تقع مسؤولية قيادة اصطفاف مدني ديمقراطي عريض (تطرقنا لأهميته في مقالات كثيرة سابقة) له برنامج محدد يحقق الإصلاح السياسي المدني-الديمقراطي على قواعد دستورية وإطلاق الحريات المدنية، وذلك بإصدار قانون عفو عام وشامل عن كل سجناء الرأي والتجمعات، ثم إلغاء القوانين الرجعية المُقيّدة لحرية الرأي والتعبير والتجمع، وتجاهل الأصوات الرجعية الداعية للتدخل في الحريات الشخصية.