أكتبُ لكم من طهران
في أي حدث سياسي في الإقليم، وما يتبعه من ارتدادات ونتائج، عادة ما يظل المتابع يراقب الحدث عن بُعد، مستكفياً بما يسمع من وسائل الإعلام، وما تأتي به الأخبار، ثم يبدأ بصياغة رأي أو موقف، تبعاً لما وصله من معلومات، قد لا تكون كافية أو شاملة، ناهيك عن أن تكون حقيقية أو واقعية.دلفين مينوي، الصحافية الفرنسية الجنسية الإيرانية الأصل، تشرّح في كتابها (أكتب لكم من طهران)، كيف يمكن للمراقب أن يكون في قلب الحدث، وأن يعايشه بقلبه وجوارحه على المدى الطويل، ليخرج في النهاية بمحصلة تضع القارئ وجهاً لوجه أمام الحالة الإيرانية منذ الثورة الخمينية عام 1979 إلى الآن. في كتابها (أكتب لكم من طهران)، لم تكن دلفين مينوي مجرَّد صحافية تسجِّل وتوثِّق، بل كانت رسالة الكتاب أعمق من ذلك وأشمل. هو كتاب تتناصّ فيه سيرة الكاتبة مع سيرة وطنها مع سيرة ثورة باتت تأكل أبناءها، بعد أن انحرفت عن أهدافها الإصلاحية نحو التشدد والقمع والديكتاتورية. كان البحث عن الجذور هو هاجس الكاتبة المبكِّر، هي الفرنسية النشأة لأم فرنسية ولسان فرنسي. لكن الحنين لجذورها الفارسية يبدأ بالتوهج ما إن تلتقي جدها المحتضر، الذي يخاطبها بكلمات فارسية أخيرة لا تفقه معناها، ثم يدسّ في يدها ورقة منقوشة بسطرين من شعر حافظ الشيرازي، لتبدأ بعدها دلفين مينوي رحلة البحث عن الذات، وعن المنبع، وعن اللغة، وعن الأرض التي تغلي بأحداثها.
تركت الكاتبة الرفاه والأمان في فرنسا، لتلقي بنفسها في أتون الحالة الإيرانية على مدى عشر سنوات، منذ عام 1998 إلى 2009. كانت مينوي مدفوعة بأمرين: الأول إعادة اكتشاف بلادها؛ تاريخاً وحاضراً وماضياً. والثاني، إرضاء شغفها بمهنة الصحافة ومهمات المراسل الصحافي، بكل ما في مهنة المراسل الصحافي من مغامرة ووقوف على حافة الخطر. وقد آتت تغطياتها للأحداث ومهاراتها في التحليل أُكلها، حين فازت بجائزة "ألبرت لوندر" للصحافة عام 2006 مع صحيفة لافيغارو عن سلسلة مقالات لها في هذا الشأن.طوال فصول الكتاب، تضعنا الكاتبة أمام راهن الحياة الإيرانية، يأتي على رأسها الوضع المأزوم للحريات، بدءاً من إغلاق الصحف وتصفية المثقفين، مرورا بالتضييق على أنشطة الناس وسلوكياتهم ولباسهم وعلاقاتهم، وتعريضهم للملاحقة والعقوبات، وانتهاءً بفساد الحياة السياسية، وتسيُّد المحافظين، وأبدية ولاية الفقيه، وتزوير الانتخابات الرئاسية، وتضعضع الديمقراطية. تلك لم تكن مجرَّد عناوين للحالة الإيرانية التي عايشتها مينوي عن قرب، إنما جاءت فصول كتابها لتتوغل في رحم الأحداث، ناقلة مشاهد من حياة المقرَّبين من أصدقائها ومعارفها، وما آلت إليه مصائرهم من اعتقال وسجن واستجوابات ومداهمات وترويع ونفي قسري... إلخ. في هذا الإطار أبرزت دور "الباسيج"، الحرس الثوري الإيراني، الذي يتحرك بسلطة المرشد الأعلى، في خلق سياج مُحكم من الرعب والقمع. ويكاد يكون (الباسيج) صورة أخرى من "السافاك" في عهد الشاه.وقفت كذلك عند الصراعات المتواترة بين الإصلاحيين، مثل: آية الله علي منتظري وخاتمي وموسوي، والمحافظين المتشددين، أمثال: أحمدي نجاد، مدعوماً من المرشد الأعلى خامنئي. وأطالت الوقوف عند التظاهرات الدامية التي نشبت بعد إعادة انتخاب أحمدي نجاد، الذي رانت عليه شبهة التزوير. وطوال رصدها لتلك الصراعات الداخلية، كانت مينوي تؤكد أن الإيرانيين لا يطمحون إلى ثورة جديدة، إنما يتوقون إلى الإصلاح والديمقراطية لا غير.في فصول متفرقة، رصدت الكاتبة الحالة الاجتماعية والنفسية في المجتمع الإيراني، حين تحدثت عن الانفصام لدى الشعب الذي يفعل في الخفاء ما لا يفعله في العلن على صعيد السلوك والممارسات الشخصية، وحين تحدثت عن الالتفاف على ما يسمّى بزواج المتعة، وتحوله إلى ما يشبه البغاء المقنّع، وحين تحدثت عن الهاربين من جحيم الوطن والمنفيين والمعارضين خارج الحدود.على مدى فصول الكتاب، كانت شخصية الكاتبة حاضرة بقوة، وهي تبوح بمعاناتها الشخصية طوال السنوات العشر، حين تعرضها للتحقيق والاستجوابات، وحين تعرضها لسحب رخصتها الصحافية، وأخيراً حين دُفِعت دفعاً للهروب من الجحيم عائدة إلى فرنسا، بعد إدراجها ضمن غير المرغوب بوجودهم في إيران. وتبقى المعاناة الأشد على قلب دلفين مينوي، متمثلة بذلك الحبل السري الذي بات يربطها بوطن تكابد عشقه، دون أن تستطيع أن تهبه السلام والعافية.