لماذا يعود العرب إلى الوراء؟!
إن دراسة تجارب الدول التي واجهت أزمات كبيرة وخطيرة نهضت من كبوتها وعوضت ما فاتها ضرورة، حيث كانت الأزمات التي واجهتها تحدياً أمامها، على سبيل المثال هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فهي اليوم متحدة وأقوى الدول الأوروبية اقتصادياً، واليابان التي دمرتها الحرب العالمية الثانية نهضت بعدها وهي اليوم دولة صناعية تنافس الدول المتقدمة. أما الدول العربية التي واجهت الأزمات مثل هزيمة 1967م فزادتها الأزمات تخلفاً وضعفاً وصراعاً، ولم تتمكن من النهوض على الرغم من التحديات التي واجهتها! لا بل تراجعت أكثر مما كانت عليه قبل تلك الأزمات، ويبدو أن الدول التي تواجه أزمات ولا تستطيع النهوض بعدها تستمر في سباتها وسكونها، وتعود إلى الوراء، وهذه حال العرب اليوم. لقد أرهقنا التفكير في أسباب تخلف هذه الأمة، وعدم قدرتها على النهوض والتقدم، ويستسهل البعض معالجة الأزمة بالهروب إلى الماضي أو المستقبل قفزاً على الواقع، ونعود لنكرر ما سبق أن قلناه في شأن المشكلات التي تعانيها أمتنا والمخرج منها، فقد بلغ الأمر بنا مضطرين إلى أن نطرح بأن العلاج بفكر جديد يقوم على العقلانية، لكن ما ماهية ذلك الفكر وما مواصفات النخبة التي تتولى صياغته؟
يبدو أننا عند مفترق طرق فكرياً، وأن العلة في تراثنا الذي لم يتعرض للنقد بل ظل مسيطراً على فكرنا، وأصبحنا ماضويين أكثر من صناع ذلك التراث، وإذا كنا نحن بصدد فكر جديد فنحن بالضرورة أمام تحد يحتاج إلى جيل جديد يؤمن بالحرية وحرية الحوار، وبالتعددية الديمقراطية، وبالتحرر من التقليد والإيمان بالتجديد.أسباب الردّةيشهد عصرنا رجوعاً عربياً إلى الوراء، فالفكر والقيم التي كانت تطرح قبل عقود أكثر تقدماً مما نعيشه اليوم، وتفسير ذلك نجاح التخلف والتقليد وهزيمة التقدم والتجديد.فما الذي يجعل "داعش" يظهر اليوم بأساليب العصور الوسطى؟ وما الذي يجعل التيار الديني السياسي شيعياً وسنياً هو المسيطر؟ وما الذي يجعل أصحاب التقليد يثيرون بين الحين والآخر مسألة ضرورة التمسك بالعادات والتقاليد؟ ويثيرون قضايا ومشكلات سبق أن أثيرت قبل عقود طويلة؟ الإشكالية هي في تراجع الحداثة وضعفها، وتقدم فكر التقليد المتخلف عليها، أما الذين يلقون باللائمة على الظروف الخارجية مهما كانت فهؤلاء يتخبطون فكرياً، فأزمتنا داخلية يستغلها الخارج، فلو تقدمنا أحياناً في التحديث، ولو كان التقدم لدينا حداثياً لما انتصر التقليديون، ولما ضعفت أو لم تنجح الحداثة، فالأمة لا تكون مأزومة ومهزومة إلا عندما تتراجع الحداثة فيها، ويضعف دور المثقفين النوعيين لا بل يضعف الفكر فيها.نعود إلى الوراء لأننا تراثيون أكثر من الذين صنعوا التراث، ونعود إلى الوراء لأننا لا نجدد فكرنا، ولا نفكر بفكر جديد، نعود إلى الوراء لأن التجديد لدينا يتراجع وتتقدم عملية التقليد، والحل بثورة فكرية معرفية جذرية لاقتلاع التخلف بمعرفة أسباب ذلك التخلف أولاً، ثم تكون المواجهة بإيجاد البديل الحداثي، ونحن الآن في مفترق الطرق علينا أن نختار لكي ندخل الحداثة، فنحن على أبوابها إما ندخلها أو توصد الأبواب في وجوهنا ونعود إلى الوراء، وربما نبدأ من نقطة الصفر على الرغم من كل التطور التحديثي الذي نعيشه. والسؤال: ما الحداثة التي نريد؟ فالحداثة هي فكر تقدمي تتضمن النهضة ورؤية استراتيجية للمجتمع لها شروطها ومقوماتها، والعرب لم يدخلوها فعلياً على الرغم من تجاربهم في محيطها وأبوابها، فالحداثة مرتبطة بالتنوير، والتنوير مرتبط بالحرية، والحرية مرتبطة بالديمقراطية، والعرب اليوم بعيدون عن ذلك كله. لكن ماذا تعني تلك المصطلحات، وكيفية تطبيقها؟ إن واقعنا المتخلف يثير الأسئلة باستمرار، والإجابة عنها أياً كانت هي نظرية لا ترسم ملامح الحداثة ولا تغوص في أعماقها، وهنا لا بد من العودة إلى تراث الحداثة في أوروبا ومحاولات العرب الحداثية، فلم تنجح الحداثة في أوروبا في ظل الفساد والتخلف بل جاءت لتقضي على ذلك كله، ولم تجرِ محاولات الحداثة العربية إلا في إطار تأثير أوروبا أو جهل السلطة بماهيتها، أو قوة القوى المنادية بها ولها.إن التفكير العقلاني العربي يجب أن ينصب اليوم على كيفية صناعة الحداثة لدينا بما يناسب واقعنا، وإن عدداً من المنادين بها يحاولون بعقلانية التبشير بها، ولكن بكل تأكيد نحن لم ندخلها بعد، وإن الذين يعتقدون أن البحث فيها نوعٌ من الترف الفكري واهمون، وهم من ضمن أسباب تأخرها بدولنا، وتأخرنا في الدخول إليها. إن التفكير الجدي في الحداثة مرحلة مهمة أثناء مرحلة الانحطاط القائمة التي تعيشها الأمة، وعلى مفكرينا ومثقفينا أن يتحركوا في هذا الاتجاه، وألا يستمروا في اجترار فكر التخلف على أنه فكرٌ حداثيٌ، وأن قدم الأمة في اتجاه الحداثة ترسمه نخبة مثقفة ومفكرة لا عملية جماهيرية شعبوية! لقد بلغت الأوضاع حداً لا يحتمل من الفساد والهدر والتفكك، وصعود التعصب والتطرف الإثني، ولا يكون مسك العصا من منتصفها حلاً، بل مؤامرة لمصلحة التخلف ضد التقدم، نعم نحن أمة لها خصائصها وظروفها لكن ذلك لا يعني فهم التخلف على أنه تقدم، ويجب أن نفرق مرة أخرى بين الحداثة والتحديث ولا نفهم التحديث أنه حداثة لأن الحداثة باقية، والتحديث لا مستقبل له بدونها. العرب وغياب المشروع الحضاري إن أولى الخطوات في الحداثة والتحديث هي التنوير كما حدث في أوروبا لصناعة التحديث لينتج تقدماً، ولا يمكن تحقيق هذه الصناعة إلا بوجود مشروع تتولاه نخبة متميزة مبدعة، وتترك أمر تحقيقه في الواقع لأجيال تؤمن بالتقدم، وقد يكون للتراكم المعرفي والثقافي دور فيه. والانتقال بها من الحالة النمطية التقليدية إلى حالة أرقى، وأفضل ما يمسك أسباب ذلك التقدم هو تغيير نمط حياة الإنسان العادي في منطقة أو دولة أو أمة، وإذا كانت هناك تجارب إنسانية قد سارت في ذلك الطريق، وحققت نجاحاً فذلك يوفر جهداً ووقتاً للآخرين الذين يريدون الوصول إلى النتائج التي وصلت إليها، ونحن بحاجة ماسة إلى دراستها للاستفادة منها.ولقد حاولت نخب عربية على اختلاف توجهاتها وأيديولوجيتها طرح هذه المسألة، والبحث عن مشروع للتقدم منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي لكنها لم تفلح في مسعاها لأسباب عديدة معظمها سياسية، ولم تتمكن أولاً من حسم أمرها في قضية مدى فائدة التراث، والموقف منه، ثم الانتقال من التقليد إلى التجديد لذلك تعثرت المشاريع العربية والإسلامية للحداثة والنهضة. إن الخطوة الأولى في ذلك الاتجاه هي خلق المناخ والبيئة الصالحة لميلاد مشروع الحداثة بالتنوير الحقيقي القائم على العقلانية، والعمود الفقري لبدء تلك الرؤية بمشروع حضاري للأمة، إذاً المشكلة تكمن في إحداث الحداثة، وبلورة رؤية حول مشروع للنهضة، وهذه الإشكالية مفقودة وغائبة في مجتمعنا ووطننا العربي حتى اليوم، ومتى ما توافرت فإن التقدم قادم لا محالة. لقد كانت هناك ملامح مشاريع تطويرية فكرية وواقعية في حياة العرب في القرن العشرين مثل: النهضة في إطار قومي عربي، والتوفيقية بين الإسلام والمعاصرة وغيرها ولكنها كلها فشلت لعدم وجود البديل، وعدم وجود مشروع النهضة.الرؤية الاستراتيجية عندما يريد مجتمع أن يتقدم ويتطور وتسود فيه الحداثة لا بد أن يحارب التقليد بالتجديد، ويفهم أن هذا النهج ليس بوجود القطيعة مع التراث، ولا الانتقال إلى التجديد بثورة وتحول سريع، بل بضرورة تاريخية تنضج على نار هادئة. وأي جماعة أو مجتمع أو نخبة لا تمتلك رؤية استراتيجية تعيد تاريخها وتاريخ الآخرين معها، وتجتر تخلفها، وتدور في دائرة محورها صفرٌ. إن خلق رؤية استراتيجية ليس بالأمر الهين، إذ لا تكفي ولادة تلك الرؤية، بل كيف تمارس على أرض الواقع، وتنمو من خلال التجربة بتضافر عوامل موضوعية تكون القدرة فيها على التكيف أساساً لها لإنتاج التقدم، والتقدم ليس بنقل ما لدى الآخرين من وسائل متقدمة بل بإنتاج تلك الوسائل وغيرها، والاستفادة من التجارب الأكثر تقدماً.اليوم يكثر الحديث عن برامج اقتصادية واجتماعية لدى أشخاص أو دول لخمس عشرة سنة قادمة، ولا يهيئون الأرض المناسبة للتطور باتجاه تلك الأهداف، أولاً وقبل كل شيء فالرؤية الاستراتيجية لا تتحدد بفترة زمنية قصيرة، وثانياً لا رؤية استراتيجية بدون تغيير في الواقع باتجاه أهداف تلك الرؤية، وثالثاً ماذا تعني أصلاً الرؤية الاستراتيجية: هي تصور مستقبلي بعيد للمجتمع أكثر تقدماً من الحاضر، لكن السؤال المهم: كيف يتحقق ذلك ما دمنا نتغنى بهذه الرؤية شعاراً دون خطوات عملية سليمة باتجاه تحقيق تلك الرؤية والانطلاق من الحاضر باتجاه ذلك المستقبل المنشود، ولن يكون ذلك إلا بالعلم والعمل والعقلانية في التفكير. ولا يحدث التقدم بدون الحداثة الفكرية، وهذه مسيرة تراكمية، وليست وليدة قرار أو نتيجة نزعة ثورية انقلابية تريد الوصول إلى الأهداف بسرعة تحرق المراحل بدون تضحيات وخسائر، لكن في الوقت نفسه تحدث على الدرب إيجابيات تبشر بتحقيق الأهداف، وتتحقق احتياجات الإنسان الأساسية أولاً ثم النزوع إلى تطور المجتمع عبر الحداثة والتحديث، ويكون ذلك علمياً وعملياً لا نظرياً فحسب، وهذا ما ننشده لمجتمعاتنا العربية.