أصدرت منظمة الشفافية الدولية ومقرها برلين، الشهر الماضي، نتائج مؤشر مدركات الفساد لعام 2017، الذي تراجعت فيه الكويت 10 مراكز عن عام 2016، لتحل في الترتيب الـ 85 عالمياً، والخامس خليجياً، ليكون التراجع التاريخي في الـ 14 عاماً الأخيرة للكويت نحو 50 مركزا على جدول المؤشر، من الترتيب الـ 35 عالميا في عام 2003.

والحديث عن مدركات الفساد، أي البيئة التي تساعد على انتشار الفساد في المؤسسات وبيئة الأعمال، أكثر شمولية من الحديث عن الفساد نفسه، فالأخير يصعب تحديد صوره بشكل حاسم، ولهذا فإن دور المنظمة هو قياس مدركاته، أي البيئة التي تشجع انتشاره، أكثر من رصد القضايا الخاصة بالفساد.

Ad

وعند الحديث عن ترتيب الكويت المتأخر على مؤشر مدركات الفساد، غالباً ما يدور السؤال التالي: كيف يمكن أن تتراجع الكويت خليجياً في هذا المؤشر بالتحديد، رغم أنها الدولة الأفضل في المنطقة على صعيد وجود الدستور والبرلمان والصحافة الحرة نسبياً وجهات الرقابة والمتابعة؟!

فعالية الديمقراطية

والحقيقة أن الاجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى توضيحات تتعلق بمدى دعم العناصر أعلاه لترتيب الكويت في مؤشر مدركات الفساد من عدمه، أولها أن الديمقراطية في الكويت غير مكتملة ولا يمكن التعويل عليها بشكل أساسي، لا في الإصلاح ولا في التنمية، فالإدارة في الكويت ليست فردية صرفة لتنجح استثنائياً، مدعومة بثروات نفطية قياسية، كما يحدث في دول الخليج، ولا ديمقراطية كاملة كالدول المتقدمة التي تتصدر القائمة الأفضل في مؤشر مدركات الفساد كنيوزلندا والدنمارك وفلندا والنرويج، ومعظمها حقق النجاح بحتمية المنهج وجعل الديمقراطية الحقيقية داعما لتطوير الإدارة. أما الكويت فإدارتها خليط غير مفهوم من الفردية والديمقراطية، مما أفرز نظام إدارة هجيناً ومنحرفاً في نتائجه التي باتت أكثر وضوحا خلال السنوات الاخيرة، وتحديدا بعد التحول الى نظام الصوت الواحد في انتخابات مجلس الأمة، وتراجع حرية الصحافة والقيود المتنامية على جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، فضلا عن عن فشل مؤسسات رقابة يفترض بها العمل على رفع مستوى الكويت في مؤشر مدركات الفساد، والمقصود بها هيئة "نزاهة" أو مكافحة الفساد، التي تعثرت خلال أقل من 5 سنوات ما بين إبطالها وإعادة تأسيسها، ثم دخولها في خلافات إدارية غير مستحقة خفضت مستويات التوقعات الإيجابية لها.

بالطبع، تنجح الإدارة الفردية استثنائيا، ولعل افضل أمثلتها سنغافورة في عهد لي كوان يو، وكوريا الجنوبية التي ظلت تحت حكم العسكر حتى مطلع الثمانينيات ثم تحولت الى الادارة الطبيعية الديمقراطية اللازمة للنجاح.

مؤشرات التنافسية

ثاني التوضيحات يتعلق بعدم ربط مؤشر مدركات الفساد فقط بالجانب المالي، مثل قضايا الاختلاس والرشوة، بل يمتد الى الارتباط مع مؤشرات لا تبدو الكويت متميزة فيها أبدا، مثل مؤشرات المنتدى الاقتصادي العالمي "التنافسية"، والتي سجلت فيها الكويت عام 2017 تراجعاً لافتا 14 مرتبة دفعة واحدة، متأخرة إلى الـ 52 عالمياً، بعد أن كانت في الـ 38 على قائمة المؤشر العام 2016.

يبيّن هذا التراجع الأداء السيئ في العديد من المؤشرات الفرعية، كمؤشر المتطلبات الأساسية الذي يقيس كفاءة المؤسسات والبنية التحتية والصحة والتعليم الابتدائي من المركز 36 عالميا الى المركز 50 عالميا، وفي مؤشر محفزات الكفاءة الذي يقيس كفاءة التعليم العالي والتدريب والاستعداد التكنولوجي من 70 عالميا الى المركز 73 عالميا في العام الحالي، والتراجع أيضا في مؤشر عوامل الابتكار الذي يقيس أداء مؤسسات الأعمال والقدرة على الابتكار من المركز 79 عالميا الى المركز 86 عالميا في العام الحالي، فضلا عن تراجع ترتيب الكويت في 101 مؤشر من أصل 112 من المؤشرات الفرعية التي تهتم بتنافسية الاقتصاد وجودة التعليم ومدى توافق مخرجاته مع سوق العمل والصحة والبنية التحتية وانتشار التكنولوجيا وتغلغل البيروقراطية في الإدارة الحكومية ومستوى البحوث والتطوير.

هذه المؤشرات المتراجعة تقيد جانبا مهما من اداء الكويت ومستواها في مؤشر مدركات الفساد العالمي، لأن بطء الاعمال والبيروقراطية وصعوبة بيئة الاعمال من العوامل التي تساعد على انتشار الرشوة وتحفز البيئة المناسبة لنمو الفساد في مؤسسات اي دولة.

نقاط الأداء

وبغض النظر عن ترتيب الكويت ومقارنته خليجيا او حتى عالميا، فإن ثمة عاملا آخر يبين التراجع الكويتي في مؤشر مدركات الفساد، اذ هبطت النقاط المجمعة للكويت في المؤشر من 53 نقطة من اصل 100 نقطة قبل 14 عاما، الى 39 نقطة في عام 2017، وهذه النقاط تعطي مقياسا افضل للتقييم اكثر من الترتيب المرتبط بأداء الدول وحركة دخولها او خروجها من المؤشر، ويعكس اراء 6 جهات تقييم دولية من اصل 13 جهة بحثت في واقع المؤسسات الكويتية وآراء المرتبطين بالأعمال الحكومية من رجال اعمال ومختصين.

تراجع مستمر

تدهور الكويت في المؤشرات الدولية، كمنظمة الشفافية العالمية والمنتدى الاقتصادي العالمي "التنافسية"، ليس مستغربا، حتى وإن تراجعت المؤشرات الاقتصادية والتنموية بالمقارنة مع دول يفترض انها لا تملك امكانات الكويت المالية الهائلة، لا الدول الخليجية فقط، فهي نتائج حتمية مرتبطة بانحراف الإدارة عن أهدافها وتحول مشاريع الاصلاح المالي والاقتصادي الى ادوات حماية سياسية للوزراء والحكومة. وليس أدل على ذلك من تقديم خطة اقتصادية ثانية تحت مسمى "استدامة"، أتت خالية من اي معنى، بعيدة عن هموم وتحديات الاقتصاد، لا ترتبط بهدف وليس لديها أي رؤية سوى عدم الاصطدام سياسيا مع برلمان ضعيف المهنية، غارق في المشاريع الشعبوية!