زار كثير من الكتاب والرحالة والإعلاميين والدبلوماسيين العرب اليابان أو أقاموا فيها بعض الوقت للدراسة أو العمل، وقام بعض هؤلاء بكتابة تجاربهم وآرائهم في كتب ومقالات ودراسات، نشرت على امتداد سنوات القرن العشرين ولا تزال.ومن بين هؤلاء شعراء أعجبوا باليابان مثل "حافظ إبراهيم" الذي هلل لانتصار "العرق الأصفر" الياباني على الأسطول الروسي والجنس الأبيض عام 1905، ومنهم الزعيم مصطفى كامل باشا في مصر كذلك، الذي أصدر عام 1904 كتاب "الشمس المشرقة"... إلخ.
وفي السنوات الحديثة توالت البحوث والأعمال لباحثين كثيرين، تناولهم الباحث اللبناني د. مسعود الضاهر في دراسة شاملة احتواها كتاب "اليابان بعيون عربية: 1904-2004"، من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، وهو بلا شك كتاب قيم يجمل أبرز معالم الاهتمام العربي باليابان في قرن كامل.تحدثت الكتب والمقالات العربية عن جوانب كثيرة من الحياة في اليابان من بينها خصوصية المجتمع الياباني واختلافه الشديد عن مجتمعات أخرى كثيرة شرقية وغربية."المجتمع الياباني شديد الخصوصية"، في رأي الناقد السينمائي أيمن يوسف، وتعود هذه الخصوصية، كما يقول، إلى عدة عدة أسباب تتعلق بالتاريخ والتقاليد واللغة والثقافة، وربما تكون منطلقات تلك الخصوصية وراء تعجب الكثيرين، وانتقاء ما يسمى التناقض الذي يحياه المجتمع الياباني، ويتساءل: كيف يمكن لهذا المجتمع الذي حقق أقصى درجات التقدم التكنولوجي والازدهار الاقتصادي أن يتعلق هكذا بتقاليد عتيقة وأفكار قديمة لا تتسق وهذه المدنية الحديثة؟ وكيف يمكن أن يعيش الياباني بعقليتين وطريقتين للتفكير في وقت واحد: واحدة تسعى إلى تسيير العلم في جميع أوجه الحياة، والأخرى تؤله الإمبراطور؟". (د. الضاهر، ص 173، عن كتاب سمير فريد، السينما اليابانية في النقد السينمائي العربي، دمشق 2001)وينقل الكتاب نفسه أن بعض المخرجين اليابانيين انتقد في أفلامه بشدة مقولة "الفرد في خدمة الجماعة" بحجة أن المجتمع الياباني مجتمع جماعات لا أفراد، مشيراً إلى أن المجتمع الياباني لا يولي أهمية خاصة لتطور الشخصية الفردية. وقد اختفت تدريجياً الأفلام التي كانت تمجد القيم القديمة، "وحلت محلها أفلام تعالج مشاكل الفقر والبطالة والتشرد والتمايز الاجتماعي. وركز بعض المخرجين على الأفلام الكوميدية التي تساعد في إعادة التوازن لشخصية الفرد الياباني المرهق بالعمل ومتاعب الحياة اليومية، ومع ظهور أفلام "الموجة الجديدة"، تعزز دور المخرجين الشباب، ومعظمهم من ذوي الميول اليسارية، الذين ينقلون إلى السينما أفكاراً وموضوعات جديدة، عبروا عنها بطرق فنية حديثة". (د. الضاهر، ص175).من المستبعد أن تكون الازدواجية الحادة أو المعتدلة مقتصرة على المجتمع الياباني في البلدان الآسيوية المعاصرة، والأرجح أن نراها في ثقافة العديد من بلدان العالم الثالث في سائر القارات، وبالطبع في المجتمعات العربية.ففي ثقافتنا السياسية والاجتماعية كما لا يخفى، صراع بين الأصالة والحداثة، والعقلية القديمة والعصرية، والدينية والليبرالية والعلمانية، وأخلاق القرية والبادية والمدينة... إلخ.وما من مجتمع عربي إلا وتتجاذب قيمه وقوانينه مؤثرات دينية وأخرى قومية وقبلية، وثالثة حديثة عصرية، كما تتعايش في ثقافتنا العامة وتتصارع دعوات التوجه الجماعي والاقتصادي الشعبوي الموجه الذي يخدم المجموع، وبخاصة الشرائح الفقيرة والمتوسطة من جانب، ونقيضها دعوات الفردية والاقتصاد الحر والملكية الخاصة والحرية الفردية.ويرى بعض دارسي المجتمعات والمصلحين أن المجتمع العربي يعاني أنانية المصلحة الخاصة وعدم الاكتراث بالمصلحة العامة، فيما يشير آخرون إلى عدم تحمل الإنسان في مجتمعاتنا للمسؤولية الفردية، وتجنبه للنقد الذاتي والاعتراف بالتقصير، واحتمائه بالقبلية أو الجماعة أو الطائفة أو العشيرة.ومن أبرز الباحثين في مجال انفصام وازدواجية الشخصية الاجتماعية العربية، عالم الاجتماع العراقي الراحل د. علي الوردي (1913-1995) أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد، وصاحب الكثير من المؤلفات والبحوث المتميزة في دراسة المجتمع العراقي، وبخاصة تأثير صراع "الحضارة" و"البداوة" على قيم هذا المجتمع وبقية المجتمعات العربية، ومنها كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، حيث يناقش "الفردية في البداوة"، من خلال الرد على المؤرخ المعروف فيليب حتي ويرى "حتي" أن "الفردية من خصائص الرجل البدوي"، ويقول "إن الفردية والعصبية القبلية كانتا من العوامل الحاسمة التي أدت إلى تفكك الدولة الإسلامية وسقوطها". ويقول د. الوردي: "أقف هنا لأسأل: ماذا يقصد "فيليب حتي" بكلمة الفردية؟ فإذا كان يقصد بها الفردية كما هي معروفة في الحضارة الحديثة، وهي التي تسمى في اللغة الإنكليزية Individualism، فأرجح الظن عندي أنها بعيدة عن طبيعة البداوة".ويضيف د. الوردي شارحا مفهوم الفردية في مدلوله الحديث: "تعني الفردية في مفهومها الحديث أن كل فرد مسؤول عن نفسه وعن أعماله وأقواله الخاصة به، فلا يسأل عنها أحد غيره من أقاربه أو أبناء محلته أو بلدته أو قومه على أي وجه من الوجوه، فإذا أصيب الفرد بالعار مثلا فإن قومه لا يُعيّرون به، وإذا اقترف جريمة في حق أحد فإن قومه لا يطالبون بها. وهذا نلاحظه في الشتائم في البلاد الراقية فمن النادر أن يشتم فرد بفضيحة اقترفها أبوه أو أمه أو أحد إخوته وأبناء عمه مثلا، إنه يشتم بها وحده في الغالب، فيقال له "خائن" أو "سارق" أو "متفسخ" أو "غشاش".ويقول إن رد الفعل مختلف تماما في التقاليد القبلية، إذ "لا يكاد أحد يقترف في القبيلة عملا مذموما حتى تنكس القبيلة كلها رأسها خجلا من الناس، وقد رأينا كيف أصبحت قبيلة فزارة سبة في الأفواه".ويضيف: "إن الشتائم البدوية تدور في معظمها حول العار الذي أصيب به أحد الأقرباء، وقد يكون الرجل غير معيب في ذاته، ولكن العيب يلحقه لعمل قام به أحد أفراد قبيلته أو أحد آبائه وأجداده.وعادة الثأر في البادية توضح لنا ذلك أعظم توضيح، فإذا اقترف أحد أفراد القبيلة جريمة طولبت القبيلة كلها بها، وقد يعاقب أي فرد منها على ما اقترفه قريب له أو نسيب، وهذا هو الذي نهى عنه القرآن بقوله: "ولا تزر وزارة وزر أخرى".فالنزعة الجماعية في هذه الثقافة، "تقوم مقام النزعة الفردية".(دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 72).ولا تقترن ازدواجية الشخصية بالمعنى الاجتماعي على العرب وحدهم، يوضح د. الوردي، "فهو ليس مرضا نفسيا، إنما ظاهرة اجتماعية، وهو يحدث في كثير من الناس حين يظهر لديهم صراع ثفافي، كما قال الباحثان الاجتماعيان بيغ Page ومكليفر Maclver. فقد أطلق هذان الباحثان على ظاهرة ازدواج الشخصية اسم "الثنائية الثقافية" Cultural Ambivalence وهما يقولان في هذا الصدد: عندما يتعرض الفرد لمطاليب ثقافات اجتماعية متناقضة، لاسيما في مراحل نموه الأولى، قد لا يتمكن من تكوين شخصية متكاملة في نفسه، فهو يحاول أن يوفق بين تلك المطاليب المتناقضة دون جدوى، ولهذا فهو قد يصبح ذا شخضية مزدوجة قليلا أو كثيرا، وقد أشار إلى مثل هذا الباحث الاجتماعي كيميبل يونغ Kimbal Young في كتابه Social Pshy chology، عندما استعرض صراع القيم في المجتمع الأميركي، فقد ذكر أن الفرد هناك يعاني صراعا بين القيم المسيحية "الوديعة" التي ورثها من أسلافه المتدينين، والقيم الاقتصادية "العنيفة" التي يواجهها في محيطة الجديد، وقد تنشأ لديه من جراء ذلك شخصية مزدوجة أو منشقة "Schizoid, or Split personality". وعن تطور اهتمام الباحثين بالموضوع يضيف: "مما يجدر ذكره أن علماء الاجتماع لم يعنوا بموضوع ازدواج الشخصية عناية كبيرة، فهم أشاروا إليه إشارات عابرة دون أن يتعمقوا في دراسته، ولعل السبب في ذلك هو أن ظاهرة الازدواج لم تنتشر في مجتمعاتهم بمقدار ما انتشرت في مجتمعنا، ولكني ألاحظ على أي حال أنهم بدؤوا في الآونة الأخيرة يهتمون بهذا الموضوع أكثر مما كانوا يفعلون من قبل، ففي عام 1962 صدر في الولايات المتحدة كتاب اجتماعي يحتوي على فصل له علاقة وثيقة بموضوع الازدواج وعنوانه "ثقافتنا المزدوجة" (Our Schizoid Culture). وفي عام 1963 صدر كتاب آخر يحتوي على فصل من مثل هذا الموضوع وعنوانه "الثنائية الاجتماعية" (Sociological Ambivalence)". (ص287).
مقالات
«الفردية» بين اليابانيين والعرب
08-03-2018