تفاخر بوتين، في خطاب حالة الأمة السنوي الذي ألقاه، بأن روسيا طوّرت أنواعاً جديدة من الأسلحة النووية تعجز أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية عن تدميرها، ما يعني على نطاق أشمل أنها تلغي جهود الولايات المتحدة لتحقيق التقدم في سباق التسلّح المتجدد... وقد صدّقت بعض وسائل الإعلام خدعة بوتين.

شكّل خطاب بوتين على الأرجح رداً على مراجعة الوضع النووي، وهي وثيقة من وزارة الدفاع الأميركية وقّعها ترامب ونُشرت في مطلع شهر فبراير. دعت هذه المراجعة إلى بناء سلاحين نوويين أميركيين جديدين (صاروخ جوال يُطلَق من غواصة ورأس نووي منخفض العطاء مخصص للصواريخ البالستية التي تطلقها الغواصة»ترايدنت»)، فضلاً عن المضي قدماً في الخطط التي وافق عليها أوباما لاستبدال الأسطول القديم من الصواريخ البالستية العابرة للقارات وقاذفات القنابل الطويلة المدى. كذلك طالبت المراجعة بعملية دمج أكثر تناغماً بين الخطط الحربية النووية وغير النووية، وهو ما اعتبره كثيرون خفضاً خطيراً للحد الفاصل بين الحرب النووية وغير النووية.

Ad

صوّرت المراجعة هذه الأسلحة الجديدة وخطط الحرب المعدلة كرد على نشاطات روسيا النووية، التي يعتبرها واضعو المراجعة محاولات لتحقيق أفضلية استراتيجية. وها هو بوتين اليوم يغدق علينا أسلحته وخططه الجديدة (بطريقة أكثر إبهاراً)، فضلاً عن ردوده على ما يراه من سعي الولايات المتحدة المتواصل لغزو وطنه الأم.

هل يعني كل هذا إعادة إحياء الحرب الباردة؟ هذا ما يبدو مع أن الإطار العام مختلف تماماً. خلال الحرب الباردة الفعلية، كان العالم منقسماً إلى كتلتين: الغرب بقيادة الرأسمالية الأميركية والشرق بقيادة الشيوعية السوفياتية. كان الجيش السوفياتي قادراً على بلوغ أي بقعة في العالم، وكان لعقيدته جاذبية أكبر، وخصوصاً بين ثوار بعض مناطق العالم الثالث حيث دعمت الولايات المتحدة الحكام الظالمين. وهكذا اندلعت الحروب بالوكالة بين حلفاء كلا الطرفين. كذلك كانت الحروب الصغيرة، التي ما كانت تؤثر في المواجهة بين القوتين العظميين، تتحول غالباً إلى حروب بالوكالة من خلال صفقات الأسلحة وتدخلات مباشرة أكثر وضوحاً.

أما اليوم، فتشكّل روسيا قوة إقليمية في أفضل الأحوال، بما أنها لا تتمتع بأي وجود أجنبي إلا في سورية وشرق أوكرانيا. ومع أن جيشها حقق تقدماً كبيراً بعد عقد من التحسينات والإصلاحات، فإنه مازال عاجزاً عن مضاهاة جيشنا في مواجهة مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، يترنح الاقتصاد الروسي. ولا تتمتع عقيدتها (خليط من الشجاعة الوطنية، والإعجاب بالبطل القوي، والحنين إلى الإمبراطورية الماضية) بأي جاذب خارج الحدود السابقة للاتحاد السوفياتي (مع أن رئيسنا، في مفارقة كبيرة، يبدو معجباً بعروضها المبهرة أو حتى يحسدها). لكن هذا لا يعني أن روسيا نمر لا أنياب له: ما زالت أسلحتها النووية قابلة للانفجار، حسبما يُفترض. كذلك تقتل قواتها الجوية والمدفعية أعداداً كبيرة من الناس في سورية. وقد تورِّط آخرين (وتوشك أحياناً أن تورطنا نحن أيضاً) في حرب أشمل، إلا أن بوتين ليس ليونيد بريجنيف، فهو بالأحرى جوزيف ستالين؟ لكن ترامب يشكّل أيضاً مجرد ظل باهت لرؤسائنا السابقين.

في الماضي، حتى في مرحلة الحرب الباردة الحالكة، اعتاد الدبلوماسيون الأميركيون والروس الرد على التوتر المتصاعد (كذاك الذي تعكسه مسابقة الصياح المتبادل بين مراجعة الوضع النووي التي وضعتها وزارة الدفاع الأميركية واستعراض الصواريخ الذي قدّمه بوتين) بالجلوس معاً، وتبادل مشاعر التهدئة، والتحدث ببساطة عن مسائل أخرى، وقد شكّل هذا هدف محادثات ضبط الأسلحة النووية خلال السنوات الأربعين تقريباً التي نشطت فيها: بإعطاء الروس والأميركيين ما يمكنهم التكلم عنه حين حالت الخلافات السياسية دون تحدثهم عن أي أمر آخر. علاوة على ذلك، فقد صعّب الحديث عن الأسلحة النووية (التي شكّلت الرمز الأساسي للمواجهة بين هذين البلدين والأدوات التي أتاحت لهما تدمير العالم إذا اشتد وطيس الحرب الباردة) إطلاق هذه الأسلحة، عبر التخفيف من خوف أن الطرف الآخر يستعد لإطلاقها.

لكن كل هذا بات جزءاً من الماضي، فجاذبية بوتين القائمة على شخصيته، واليأس الاقتصادي، والتوق المثير للشفقة إلى تجديد عهد الإمبراطورية (فضلاً عن سطحية ترامب، ورفضه التعلّم، وإضعافه السلك الدبلوماسي، وواقع أنه يعجز عن الانفتاح على موسكو من دون تأجيج الشكوك في أنه يرضخ لبوتين كجزء من مؤامرة أو ابتزاز) ما هي إلا غيض من فيض العقبات التي تعوق إعادة إحياء مرحلة الهدوء تلك.

مرحلة الهدوء؟ بما أنني عشت خلال سنوات تمارين الاحتماء والاختباء التي كنا نخوضها تحسباً لأي ضربة نووية، أقر بأنه من الغريب جداً أن نشعر بالحنين إلى الحرب الباردة. في فيلم Three Days of the Condor، يقول مسؤول وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، الذي يؤدي دوره جون هاوسمان، إنه يفتقد «وضوح» مرحلة الذروة في تلك الحقبة. وينطبق هذا على يومنا إنما بأضعاف مضاعفة، ولكن ثمة أمراً مفقوداً إلى حد لم يتوقعه سوى قليلين: الاحترافية، والجدية، والجهد من كلا الطرفين لرؤية المشاكل كمشاكل ومعالجتها.